آخر تحديث: 29 / 7 / 2025م - 3:19 م

أبونا ما يتقاعد

عماد آل عبيدان

”الوزير“، هذا اللقب الذي يعرف به والد صاحبي في الديرة، وكأنّه لقبٌ رسميّ مُنِح له من جهة عليا.

يمشي دائمًا بنفس الثوب السُكّري، وبنعلٍ فقد ذاكرته من كثرة ما داس طرقات البلد.

يقول صاحبي، كلّ صباح، في تمام الخامسة، يجلس والدي قبل العصافير وقبل صوت المؤذن بدقيقة، يُصلي ثم يحلق ذقنه كمن يستعدّ لمقابلة ملكٍ لا يحبّ التململ، ثم يلبس ثوبه ذاك، يغلق الأزرار كمن يُقفل على قلبه، ويمشط شعره المتجعد بمنشفة قديمة فيها رائحة تخصه ويلبس قحفيته وغترته بدون عقال.

ويخرج.

إلى أين؟

الله أعلم.

مرةً قال لنا: ”أمشي لأُمرّن ذاكرتي.“

وأخرى قال: ”أُراقب الشمس وهي تشتدُّ قليلاً فأطمئن أنها ما زالت معنا.“

لكنه لم يكن يمشي عبثاً… كان يعود دوماً عند الظهر.

دائمًا الظهر.

ومعه ربطتان من الخبز، وكيسا تفاح وموز، وأحيانًا شيئًا لا يُطلب: علبة حلاوة للأطفال الذين كبروا ونسوا طعم الطفولة، لكنه لم ينسَ أن يشتري لهم الحلاوة، كمن يُذَكِّرهم أن الحياة لا يجب أن نأكلها مرةً واحدة فقط.

يدخل البيت بالحذاء، رغم اعتراض أمي الأزلي، ويمشي على البلاط الجديد وكأنّه يمارس حقاً قديماً في تجاهل الجديد.

ثم يأكل واقفاً، ويعلك لقمة قبل أن تنضج الطبخة، وكأنّ جوعه تفضيل لا اضطرار.

بعد الأكل، ومع اشتداد حرارة الظهيرة، يتمدّد على الكنبة في صالتنا، يضع يده على جبينه، ويقول الجملة التي تحفظها البلاطات قبلنا:

”أنا مو نايم… أريح عينيّ بس.“

ونعرف أنه بعد ثلاث دقائق سيغرق في شخيرٍ وديعٍ كأنه يغني لحلمه الأول.

أما أمي، فلا تكفّ عن المناوشة.

تتأفف، وتتمتم، وتسحب عليه بطانية قديمة دون أن تراه، وإن مرّت بجانبه، قالت بصوتٍ عالٍ: ”الرجال لا يتقاعدون، فقط ينقلون عبء عقولهم إلى أرجلهم.“

وربما لهذا يمشي أبي كل صباح… ينقل تفكيره إلى قدميه.

يكمل فيقول: ذات يوم، قررنا - نحن أولاده الذين أصبحوا آباءً - أن نمنعه من الخروج.

قلنا: ”يكفيك تعباً يا أبي، استرح، تمتع بتقاعدك!“

فنظر إلينا طويلًا، ثم مسح على لحيته كمن يهمّ بالحكمة، وقال:

”هل سمعتم يوماً عن الأب الذي تقاعد؟ وهل يُسمَح للماء أن يتقاعد عن الجريان؟“

لم نُجِب.

سكتّنا كما كنا نفعل عندما كان يُسكتنا عند متابعته نشرة الأخبار.

وبعد قليل، خرج… كعادته… دون أن ينتظر رأينا.

رجع عند الظهر… كعادته… ومعه ربطتا خبز وكيسان من الفاكهة، وحلاوة لم يسأل عنها أحد.

وألقى علينا نكتته المعتادة التي نضحك عليها من باب المجاملة، رغم أنها كانت مضحكة حين سمعناها أول مرة، قبل خمس وعشرين سنة.

ثم جلس على الكرسيّ الخشبي العتيق، نظر إلينا واحدًا واحدًا وقال:

”على الآباء أن يُبقوا الحياة طازجة، أن يخبروا القصص نفسها حتى تضحكوا من الذاكرة، لا من القصة.“

ضحك.

ثم ضحك.

ضحك كثيرًا، حتى لم يعد فينا من يملك سببًا للسكوت.

أبي لا يعرف التقاعد.

وأظنّه، عندما يرحل يوماً - لا سمح الله وأطال في عمره - سيغادر كما عاش:

في الخامسة صباحًا، وعلى كتفه كيسا فاكهة…

وفي قلبه خبزٌ ساخنٌ لنا جميعاً ولا تنسى الحلاوة.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 6
1
كوثر النصر
27 / 7 / 2025م - 11:43 ص
عظمة المقال في بساطته… الأب اللي ما يتقاعد، اللي يخلي الحياة تستمر كأنها صلاة يومية، كأنها فجر ما يوقف. نص خالد.
2
مهدي الزاهر
27 / 7 / 2025م - 3:23 م
مقال بملامح أب من الزمن الجميل… وفاء وروتين ونكتة تتكرر لا لأنها جديدة بل لأنها مليئة بحب قديم لا يصدأ.
3
حسين (ابو منصور)
[ العوامية ]: 27 / 7 / 2025م - 6:11 م
للاسف كثير من الآباء تم تجاهلهم بعد التقاعد وكأنهم فقدوا قيمتهم… شكرا لهذه اللفتة الجميلة استاذ عماد
4
عماد آل عبيدان
27 / 7 / 2025م - 11:06 م
شكرًا أ. كوثر…
هكذا الآباء، يُصلّون أعمارهم على هيئة فجرٍ لا يغيب…
يمشون في الحياة كأنهم يدعونها إلى القيام، لا القعود.
وتبقى ابتسامتهم — ولو شاخت الوجوه — نداءً يوميًّا لاستمرار الضوء.
5
عماد آل عبيدان
27 / 7 / 2025م - 11:08 م
أ. مهدي صدقت فالاب الذي يعيد النكتة لا يريد إضحاكنا فقط، بل يختبر إن كانت محبتنا له لا تزال على السمع كما كانت في القلب.
هو الزمن الجميل حين يمرّ من باب المطبخ لا من كتب التاريخ…
6
عماد آل عبيدان
27 / 7 / 2025م - 11:10 م
الاستاذ أبو منصور…
كلماتك وجيعةٌ يعرفها كل أبٍ جلس على حافة التقاعد وظنّه الناس نهاية الدور، لا بداية الحكمة.
الآباء لا تنتهي صلاحيتهم… هم الخبز اليوميّ الذي نظنّه عاديًّا حتى نفقد رائحته.
وما كتبته كان محاولة بسيطة لنقول:
“ما زالوا هنا… فامنحوهم منكم كما منحونا من عمرهم.”
شكرًا لك على هذا الصوت النبيل الذي يُعيد لهم مكانهم في القلوب قبل البيوت.