حدَث في المستقبل
بقي خالد وماجد يتكلمان باستخدام تطبيق الترجمة السريعة لعشر دقائق كاملة قبل أن يلاحظا أنهما يتكلمان نفس اللغة ونفس اللهجة! هما الآن في القمر تيتان وفي السنة الحادية والعشرين من الهجرة، هجرة الفوج الأول من الأرضيين من غير البعثات العلمية إلى تيتان، الهجرات المدنية كما يسمونها.. خالد طاعن في السن، لكنه بصحة ممتازة بفضل الروبوتات الدقيقة التي حقنها الزطاريخ في دمه قبل إرساله إلى تيتان، بما أنه كان من أوائل البشريين الذين تواصلوا معهم. بعض أعضائه الداخلية باتت صناعية آلية بالكامل.. لن يعيش أكثر من سنة، لكن السنة في تيتان تساوي سنوات أرضية كثيرة.
حاليا من تبقى من الجنس البشري يعيش متفرقا ما بين الأرض والمريخ وتيتان، وأفراد قلائل نقلوا - ضد إرادتهم غالبا - إلى كوكب الزطاريخ باعتبارهم عينات علمية.
البشر في تيتان خليط من أعراق ولغات وأديان مختلفة وهم يتواصلون معظم الوقت بمعونة الذكاء الصناعي،
أما الشعور بالتميز الثقافي أو العرقي فهو شبه منعدم
بما أن الجميع باتوا لاجئين من جِرم آخر...
تتميز الحياة في تيتان ببساطتها رغم التقدم التقني الذي يحفظ الحياة نفسها، ويحميها من الآثار المدمرة لجاذبية زحل، لكن خالد ما زال يفضل تأمل النجوم كما كان يفعل في أيام شبابه على وضع قلنسوة الأحلام التي تجعلك تشاهد الأفلام التي تفضلها بمجرد أن تغمض عينيك، وما زال يكتب الشعر الذي لا يشاركه مع أحد، وهو لا يعتقد على كل حال أنه يوجد كثيرون قادرون على تذوقه خاصة مع برامج الترجمة الفورية التي يستخدمها الجميع بدون تفكير بحكم العادة ولو كان ما يقرؤونه أو يسمعونه بنفس لغتهم الأم. بالمناسبة هي تترجم لك كلام الحيوانات كذلك، نعم، الحيوانات، لكن ما تقوله لا يتعدى التعبير عن الجوع أو الألم وغالبا لا يهتم باستخدامها سوى البيطريين، وإن كان خالد قد أورد بعض ما ترجمته له في شعره، الذي عبر فيه كيف أن الحيوانات ليس في لغتها مفردات للشتم رغم قسوة البشر معها ورغم تغيير أسلوب ونوعية غذائها وصدمة الأجيال الأولى التي نقلت من الأرض إلى تيتان في صاروخ الفضاء المسمى سفينة نوح.
نقر ماجد بسبابته على صدغه الأيسر وقال ”سفينة نوح“، وكان هذا كافيا لتستجيب العدسة اللاصقة في عينه اليسرى ويخرج منها شعاع إسقاط يصور كتابا انفتحت صفحاته تباعا لتنفصل صفحة منها وتتضخم، نظرة واحدة من خالد إلى نهاية الصفحة جعلته يبتسم، وبادله ماجد الابتسام وقد عرف أنه فهم ما يريد قوله، قبل أن يعودا للثرثرة عن صعوبة التنقل إلى الأماكن القريبة، نعم القريبة، فجميع الأماكن البعيدة يمكن الوصول إليها بقطارات تتحرك بسرعة الرصاصة، أما الأماكن القريبة فلا يخدمها هذا النوع من القطارات، إذ أنه بنفس السرعة لن يتاح له التوقف في الوقت المناسب. ولذا تخدمها وسائل مواصلات أبطأ وأقل راحة، التقيا في معرض فني كانت ابنة ماجد مشاركة فيه، معرض مخصص لرسم تصور المشاركين لكوكب الأرض قبل الجفاف الكبير. حين كان الشمس اسما لجِرم منير في السماء، وليس نوعا من المصابيح يحفز إنتاج فيتامين دي، ويعمل بالطاقة الذرية، ولا يحتاج إلى إعادة شحن مدى الحياة.. تباع بنصف السعر كلما دار تيتان سبع مرات حول زحل، وتأتي بعدة أشكال..
ربما لهذا السبب رسمت أمجاد الشمس على شكل قلب.
شمس برتقالية غاربة، قلب برتقالي حزين يتدثر بالغيوم ويحاول الاختباء خلف جبال صخرية جرداء وسط البر، يشبه المكان الذي قابلت فيه شش نوال لأول مرة..
بجانبهما كانت شش واقفة بجمود متظاهرة بأنها تمثال سريالي، والحقيقة أنها كانت ثابتة تماما كتمثال، لا يعمل فيها تقريبا إلا سمعها وعقلها... كانت قد قررت دراسة الجنس البشري بعد وفاة نوال، رغم أن قومها يسمونه العلم الذي لا نفع منه، طبيعة جسمها تجعل تنقلها بين الكواكب أسهل من البشر، فهي تتحمل ركوب مركبة تسير بعشرين ضعف سرعة الصوت.. وحتى هذه تعتبر بطيئة مقارنة بغيرها لكنها مناسبة لو كان السفر بداخل المجموعة الشمسية.
أما للعودة لكوكب الزطاريخ فلا بد من عبور الثقوب الدودية.
وهي لم تعد تقضي الكثير من الوقت هناك على كل حال.
”لقد أهملتِ دراسة علوم الطاقة تماما“.. قال أبو شش.
شش: ”................“.
- ”ما النفع الذي سوف نجنيه من دراسة كائن مهدد بالانقراض يعيش في كوكب آخر؟“..
تابعت شش صمتها ليكمل بسخط ”حضورك لمجلس العلماء أصبح قليلا، وحتى إن فعلتِ فإنك تلزمين الصمت، أين ابنتي التي كانت لا تكاد تُطرح فكرة إلا وعارضتها أو صححتها أو قدمت ما هو أفضل منها؟“..
لم تجبه، وغادرت الكوكب بعدها بوقت قصير لتمارس هوايتها في مراقبة البشر، الآن هي تقف في المعرض الفني، تتأمل لوحة أمجاد ماجد من بعيد بينما وقف ثلاثة من البشر وأربعة من الربوتات يتأملونها هي.. تفكر في التواصل معها لكنها تخشى أن يعيد التاريخ نفسه، ويتكرر ما حدث مع نوال... يوجد قانون صارم يقضي بأن لا يتدخل الزطاريخ في حياة البشر، وأن لا يسمحوا لهم بملاحظة وجودهم، عليهم أن يكتفوا بالمراقبة، والتواصل المحدود لو كان له نفع واضح لأمة وعِلم الزطاريخ، لو تعرضت أمجاد لخطر ما.. كما حدث لنوال، فلن تستطيع شش حمايتها، لو فعلت فسيحظر عليها مغادرة كوكبها نهائيا.
”مبدع حقيقي ذلك الذي نحت هذه“ تمتم أحد البشر وهو يتأمل شش ورفع يده محاولا لمسها، لكنها أوحت له فورا بأن اللمس للتحف ممنوع، فوضع يده في جيبه بجزع وقد دهش لشعوره بشيء من الخوف لمجرد أن خاطرا كهذا خطر له، خاطر أن لمس المعروضات غير مسموح على الأرجح.. وابتعد بضيق ليتأمل باقي محتويات المعرض.
هنا دخلت أمجاد القاعة، وبعد نظرة سريعة جالت المكان اتجهت فورا إلى شش قائلة بصوت خافت ولكن واثق: ”هذا التخفي لا ينطلي علي، أنا أعرف ماذا تكون“، صدمت شش من كلام أمجاد لكنها تماسكت وبقيت تتظاهر بأنها مجرد تحفة فنية، ابتسمت أمجاد وأكملت ”الجيل الجديد يعرفكم جيدا ويعرف كيف يتعامل معكم، لدينا ربوتات تستطيع محو إدراككم وتحويل ما يتبقى منكم إلى طاقة، ما فعلتموه بنا سيرد بمثله“، عبست قبل أن تكمل: ”أنصحك بتحذير قومك من الاقتراب مجددا إلى أي مكان بداخل المجموعة الشمسية، نحن نعرف أنكم تسببتم في انهيار كوكب الأرض“، قالت ذلك بصوت خافت لا يكاد يسمع، وتركت شش مذهولة بينما ذهبت لكي تتفقد لوحاتها وتتكلم عنها بابتسامة أشرقت على وجهها وكأن شش لم تكن موجودة أصلا.
اصطحب ماجد ابنته للبيت بعد انتهاء المعرض، كان يتحدث معها طوال الطريق ويشعر أن ثمة شيئاً خطأ..
وصلا وهو يشعر بعدم راحة في معدته...
ولكن.. ولكن...
هذه ليست أمجاد!
*****
فتحت أمجاد جفنين ثقيلين، شعرت بثقل وألم في جسمها كله وبعض الخدر في ساقيها، كانت تشعر بالصداع والدوار كذلك، رأت أمامها أشكالا مبهمة، عرفت منذ اللحظة الأولى أنها ليست على تيتان... هذا ليس الأرض أو المريخ كذلك.. خطتها نجحت، لقد نقلت إلى كوكب الزطاريخ..
عدلت وضع عدسات زجاجية وجدتها تنزلق على وجهها، كان واضحا أنهم وضعوها هناك بينما هي ما تزال غائبة عن الوعي، تعرف أن هذه العدسات تريها الأشعة تحت الحمراء، صرخت رعبا لما رأته وفقدت الوعي ثانية..
حين استيقظت للمرة الثانية كان ما يشبه القلنسوة من معدن غير موجود في المجموعة الشمسية يغطي نصف رأسها الأعلى، هذا جهاز يترجم ما تراه وتسمعه لأشكال وأصوات مألوفة أكثر...
”حمدا لله على سلامتك“، صوت شش الحزين كأنه صدى صوت فاجأها رغم أنها كانت تتوقعه..
”الله؟.. اسمعي.. إنني... لقد تم اختطافي أخيرا أليس كذلك؟“ قالت بحدة.
ضحكت شش، لم تضحك كالبشر لكن أمجاد فهمت فورا أنها تضحك قبل أن تقول: ”ألم يكن هذا هدفك؟ استفزازي بهدف إحضارك إلى هنا؟“ قالت بحدة مماثلة وقليل من السخرية..
استرخت أمجاد وأرجعت رأسها للخلف وأغمضت عينيها قائلة: ”دعيني أخمن، قمتم باستبدالي بروبوت بعد تحميل ذاكرتي عليه؟ ذكاء صناعي يتظاهر بأنه أنا“.
تأملتها شش وهي تشعر بأن التاريخ يعيد نفسه، نوال كانت في هذه الغرفة بالذات قبل دهر مضى..
”لقد... لقد حاولت منع شعبي من احتلال الأرض... لقد استولينا على معظم طاقة الرو... الماء من كوكبكم، لكن كذلك لم يكن من بقي منكم ليستطيع النجاة دون مساعدتنا“.
أمجاد: ”حقا؟“.
شش: ”........“.
أمجاد بسخرية: ”شكرا“.
شش وهي تشير إلى الطوب الملون إياه: ”استريحي الآن، عودي إلى النوم، وتناولي قليلا من هذا حين تستيقظين مرة أخرى“.
أمجاد كانت عقلا واعدا... من السهل إقناع مجلس العلماء بجعلها إحدى حلقات الوصل مع الجنس البشري، ولو أن كثيرين باتوا مقتنعين الآن أنهم لم يعودوا بحاجة إلى كشف وجودهم لبعض البشر، لم نعد بحاجة إلى وسيط بيننا وبين البشر...
هذه بالذات كانت تعلم بوجودنا، وهي تشكل تهديدا واضحا ما لم نضمها لسفرائنا البشريين.
نامت أمجاد....
.. ولكنها لم تستيقظ، كانت إحدى التجارب الفاشلة، إحدى الحالات التي لم تتحمل السفر.
تمت