الجبر قبل الكسر: حين يسبق لطف الله نزول البلاء
من بديهيات الحياة أن الجبر يأتي بعد الكسر، والشفاء بعد الألم، والتضميد بعد الجراح. هكذا اعتدنا أن نفهم تسلسل البلاء والفرج. لكن في منطق السماء، وفي عناية الرحمن، يحدث العكس أحيانًا. فكم من كسرٍ لم يقع لأن الله جبر القلب قبله، وكم من مصيبة مرّت بردًا وسلامًا لأن السكينة سكنت القلب قبل أن يصلها الخوف.
في كثير من الابتلاءات، نكتشف أن الله تعالى يهيئنا قبل أن يبتلينا، ويقوينا قبل أن يُجرّبنا، ويجبر خواطرنا بلطفٍ خفي لا نلاحظه إلا إذا تأملنا بأثرٍ رجعي. قال تعالى: ﴿فَأَنزَلَ آللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ ، وهذه ليست سكينة بعد النجاة، بل أثناء الشدة، بل قبل أن تكتمل المصيبة أحيانًا… إنها رحمةٌ تسبق القضاء.
الصبر الحقيقي ليس ردة فعل، بل إشراقة نور يُلقيها الله في القلب قبل أن تهجم العاصفة. تشعر بها حين تقف أمام فاجعة، وتندهش من هدوئك، من صبرك، من رباطة جأشك… وتقول لنفسك: ”كيف ثبتُّ؟“. الجواب: لقد جبرك الله قبل أن يكسر المصاب شيئًا فيك.
وقد نغفل عن أن كثيرًا من المصائب التي وقعت لم تكن أقسى ما كان يمكن أن يكون. هناك بلاءات دُفعت عنا، وخسارات خُفّفت، وأقدار خفيفة اختيرت لنا بدلًا من أقدار أشد، لأن في الجبر الخفي تدبيرًا لا نراه في حينه. وصدق الله إذ قال: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا? شَيْـ?ً?ا وَهُوَ خَيْرٌ? لَّكُمْ﴾ .
بل إن من أعظم أوجه الجبر الرباني أن يمنحك الله صبرًا لم تطلبه، ورضًا لم تتعلمه، ويجعل بينك وبين الانهيار مسافة من نور. وأنت تمشي على جسر البلاء، لا تعرف من أين جاء هذا الثبات، حتى تدرك بعد زمن أن الله أعدّ قلبك قبل أن تطرقك الفاجعة.
أنبياء الله - وهم صفوته - جُبروا قبل أن يُكسروا. إبراهيم أُري الرؤيا، وأُعدّ قلبه قبل لحظة الذبح، فلم يكن المشهد عنده صدمة، بل يقينًا. ومريم
، حين جاءها المخاض وهي وحيدة، كان نداء السماء يُمهّد لها: ﴿أَلَّا تَحْزَنِى﴾ … قبل أن تُسأل، وقبل أن تطلب.
وفي حياتنا اليومية، كم من كسر عاطفي أو خسارة مؤلمة أو مرض مفاجئ، كان بإمكانه أن يُفقد الإنسان توازنه، لكن الله سدّده بلقاء طيب، أو دعاء صادق، أو إشارة رحمة، أو حتى نوم هادئ، فكان ذلك الجبر الذي سبق الكسر وأنقذ صاحبه من الانهيار.
الصبر الجميل لا يعني ألا نتألم، بل أن نؤمن بأن وراء هذا الألم تدبيرًا أكبر. وأن الله لا يبتلينا ليعذبنا، بل ليطهرنا، ويرفعنا، ويكشف لنا كم نحن أقوى به، وأضعف دونه. وحين نُدرك ذلك، لا نعود ننتظر الجبر بعد الكسر… بل نراه قبل أن يقع.
اللهم إنّا لا نملك من أمرنا شيئًا، لكننا نثق أنك الأعلم، والأرحم، والأقرب. فاجبر قلوبنا قبل أن تنكسر، وأنزل علينا من سكينتك ما يجعلنا نثبت في العاصفة. علّمنا أن نراك في المصيبة، ونشكر لطفك وإن خفي، ونؤمن أن جبرك يسبق كسرنا دائمًا… لمن صبر.