حين يُطلب من الكاتب أن يسبح… في غياب البحر

تسللتُ بين صفحات كتابٍ ما، حروفه تتراقص أمامي كظلّ باهت، لكنها لم تترك في الروح أثرًا. لم يكن الإعراض عن النص هو ما شدّني، بل الصدى المدوي للنقد الذي انهال عليه، سياط كلمات لاذعة كأنها أُطلقت لتقيم محاكمة علنية، لاتهام الكاتب بجريمة لم يرتكبها.
في تلك اللحظة، توقفتُ. عادت بي الذاكرة، وارتسم أمامي سؤالٌ ثقيل: من أعدّ هذا الكاتب لهذه الساحة؟ من درّب يده على مسك القلم؟ من احتضنه؟
وهذا الفراغ المؤسسي ليس مجرد غياب، بل هو تربة خصبة لينمو فيها النقد اللاذع كأشواك، يفتك بمن لم يجد من يرعاه أو يسقيه معرفة. في مطلع رحلتي، كانت روحي عطشى لمرفأ. كنتُ أبحث عن مؤسسة واحدة، عن بوصلة تقودني في محيط الكلمات. كنتُ أريد أن أسبح، أن أغرق في بحرٍ من المعرفة، لأخطئ وأُصحّح، لأتعلّم السقوط والنهوض. لكنني لم أجد سوى مسارات فردية، دروبًا وعرة لم تمهدها يدٌ خبيرة، محاولات شخصية متعبة أشبه بالتحليق بجناح واحد في سماءٍ لا تعرف الاحتضان الاحترافي.
ورغم كل الجهود التي تضخّها الدولة في دعم الثقافة والكتّاب في بلادنا، شعرت بأن هناك فراغًا مؤسسيًا حقيقيًا. وهذا يطرح سؤالًا لا بد من مواجهته، سؤالٌ يتردد صداه في أروقة الفكر:
• من المسؤول عن غياب المؤسسات العلمية المتخصصة في تدريب الكتّاب؟
• هل هذه المؤسسات يجب أن تكون تحت مسؤولية وزارة التعليم، لتأسيس قاعدة معرفية صلبة؟ أم أنها تقع ضمن اختصاص وزارة الإعلام وهيئة الأدب والنشر والترجمة، كجزء من تطوير الصناعة الثقافية؟
• وأين دور القطاع الخاص من كل ذلك؟
• لماذا لا نجد مراكز متخصصة تُخرّج كُتّابًا كما تُخرّج الجامعات أطباء ومهندسين؟
• بل لماذا لا نجد حتى برامج جامعية واضحة في هذا المجال باللغة العربية، رغم اتساع السوق الثقافي لدينا؟
وإذ أبحرتُ في محيط هذا البحث عن البوصلة، وجدتُ أن المشهد العربي لا يخلو تمامًا من جهود فردية ومبادرات واعدة. هناك أكثر من 10 مبادرات ومراكز في العالم العربي تقدم دورات وورش عمل في الكتابة الإبداعية، مثل ورشة علاء الأسواني، وبعض البرامج الموسمية ضمن الجامعة الأميركية في القاهرة، بالإضافة إلى مراكز مثل مركز أبوظبي للغة العربية ببرنامجه ”قلم للكتابة الإبداعية“، ودار الكافي للنشر، ومنصات مثل ”تدرب“ و”معارف“ و”إدراك“ التي توفر دورات أونلاين، وحتى هيئة الأدب والنشر والترجمة في السعودية ببرامجها التدريبية.
وهنا طرأ سؤال جوهري: هل هذه المبادرات، مهما بلغ إخلاص القائمين عليها وتعددت أعدادها، قادرة على تغطية الاحتياج الهائل لسوق أدبي عربي يضم الآلاف من المواهب الشابة؟ هل يمكن للصناعة الأدبية أن تنهض على أكتاف هذه الجهود المبعثرة، بينما تنهال عليها الانتقادات من كل اتجاه؟
نظرة بسيطة إلى الخارج تكشف مفارقة صارخة. في أوروبا وحدها، توجد أكثر من 17 جامعة تقدّم برامج كتابة إبداعية عن بعد. منصات تعليمية عالمية مثل Coursera وedX توفران أكثر من 200 دورة متخصصة، تشمل كل ما يمكن تخيّله من فنون السرد، والنقد الأدبي، وكتابة السيناريو، وحتى كتابة رسائل الأطفال. مراكز مثل Gotham Writers’ Workshop في نيويورك تخدم ما يزيد عن 8000 طالب سنويًا، وتقدّم برامج احترافية عن بُعد تشمل الخيال، والسيرة الذاتية، والسيناريو، والنقد، بل وتوفّر متابعة فردية مع محررين. أما في بريطانيا، فتعمل Poetry School منذ أكثر من عقدين على تقديم دورات في الشعر وورش نقد جماعية، وتتيح للكتّاب من مختلف أنحاء العالم الانضمام إليها إلكترونيًا.
لم يكن هذا الإدراك وليد تنظير، بل ثمرة تجربة شخصية، حيث وجدتُ أن الحبر لا يكتمل إلا بالعلم.
فما كان ينقصني، وما أدركته عبر شاشات بعيدة وأسماء لم تعرفني، هو كيف تبنى الفكرة، وكيف يتنفس النص، وكيف تتحرك الحروف بتوازن، وكيف تُبنى الشخصيات كأنها كائنات حية تتنفس.
ولعلّ من قرأ لي أو رافقني في هذه الرحلة، لاحظ أثر هذه المعرفة المتراكمة: هذا التأنّي في الطرح، اللغة التي تميل إلى التأمل، الفكرة التي تتكشّف بهدوء كأنها تمشي على أطراف الحواس.
لم يكن هذا وليد المصادفة، بل ثمرة علمٍ سعيت إليه، وتعلّمٍ صامتٍ عميق، خُضته بقلبي قبل قلمي.
ليس دفاعًا عن ذاتٍ أو نص، بل سؤال يلامس جوهر العدالة والمسؤولية: من ذا الذي يتسنّم عرش النقد، ويمنح نفسه الحق في إطلاق الأحكام القاطعة؟
وهل مجرد الإحساس بعدم الإعجاب، يبرر إقامة المحاكمات العلنية؟
أين العلم في كل هذا؟ أين الحياد؟ لقد مررتُ سابقًا بتجربة نقد لاذع شعرتُ أن غايته لم تكن التوجيه، بل التحطيم. كانت كلماته كالسياط، لا تسعى لفتح باب، بل لإغلاق نوافذ الضوء.
ومن هنا تولّد سؤال أكبر: من يُعطينا الحق أن نجلد من لم نوجّهه؟
من لم نمنحه فرصة التعلم، ولم نُعِنه على الوقوف، هل من العدل أن نُسقطه لأننا لم نكن جزءًا من صعوده؟ إن الكتابة ليست مجرد موهبة تُترك لصقل الذات. إنها صناعة متكاملة، تحتاج إلى تعليم وتدريب ونقد وتوجيه. وكما يقول أرسطو: ”إن التعليم هو أفضل مؤونة للشيخوخة“، فكيف لا يكون أفضل مؤونة للمبدع في شبابه، ليُخرج أجود ما لديه؟
كارل ساجان، العالم والفيلسوف، كان يؤكد دومًا على أهمية التفكير النقدي والعلمي كوسيلة لفهم العالم، وهذا ينطبق على فهم طبيعة الإبداع نفسه.
يجب أن يكون النقد منهجًا علميًا يقوم على التحليل والتفكيك، لا مجرد إطلاق أحكام شخصية.
مثلما لا يمكننا تأسيس قطاع صحي دون كليات طب ومراكز تدريب، لا يمكننا تأسيس مشهد ثقافي متين دون بنية تعليمية وأكاديمية للكتابة.
الكاتب ليس عدوًا يجب محاكمته كلما تعثّر، بل مشروعًا فكريًا يحتاج إلى حاضنة، وإلى مؤسسة تقول له: ”أنت لست وحدك.“
لسنا بحاجة إلى المزيد من السيوف المرفوعة، بل إلى مزيد من الأيدي الممتدة نحو الحرف.
لسنا بحاجة إلى محاكمات على الورق، بل إلى أفراد يؤمنون بالكلمة، فيصنعون منها مؤسسات لا تترك الكاتب في العراء.
فربما كان الكاتب الذي تُجلده الكلمات، هو مشروع أمة لم تجد بعد من يحتضنه.
وحين نصنع للكتابة مرافئ من الوعي والاحتواء، سيتوقف كثيرون عن الغرق، وسنكتشف أن ما ظننّاه ضعفًا في النص، لم يكن إلا صدىً لعطش طويل... عطش لمعلّم، لمرشد، لصوت يقول: ”اكتب... فأنا هنا، أراك.“