إلى متى تبقى الشاحنات سيدة الطريق؟
في كل مرة أقود فيها من الدمام إلى الرياض والعكس، يتكرر المشهد ذاته: طريق طويل تكاد لا ترى نهايته، تتزاحم عليه الشاحنات الثقيلة كأنها صُممت لتكون المهيمنة الوحيدة عليه. تفرض هذه القاطرات البرية ثقلها على الأسفلت والمشهد والحركة، ولا تترك لمركبات الركاب ولا للسائقين متسعًا من الطمأنينة أو الأمان. المسارات الضيقة تصبح أكثر ضيقًا، والحوادث أكثر احتمالًا، والسفر أكثر إجهادًا، وكأن السائق العادي بات ضيفًا غير مرحّب به على طريق خُصّص لصناعة النقل.
هذا الزخم المروري ليس مجرّد ازدحام، بل نتيجة تراكمية لغياب توزيع لأدوار النقل بين البر والسكك. التريلات تُستخدم في كل شيء تقريبًا، من نقل البضائع الخفيفة إلى الثقيلة، من أقصر المسافات إلى أبعدها، دون أن تؤخذ بعين الاعتبار تبعات هذا الخيار على الطرق، وعلى الناس، وعلى البيئة.
تأثير الشاحنات الثقيلة على البنية التحتية هائل، بل مرهق. فحسب دراسات من إدارة الطرق الفيدرالية الأمريكية، مرور شاحنة واحدة فقط يعادل من حيث التأثير على الطريق مرور 5,000 إلى 10,000 مركبة صغيرة. هذا الفارق الضخم في الحمل والتأثير يجعل الطرق بحاجة دائمة لإعادة تأهيل وترميم، في وقت تزداد فيه الكلفة، ويقل العمر الافتراضي للطريق، وترتفع معدلات الحوادث بسبب الحفر والتصدعات والانحناءات الناتجة عن الأحمال الزائدة.
المسألة لا تتوقف عند البنية التحتية، بل تشمل أيضًا الأثر الاقتصادي والبيئي. تكلفة صيانة الطرق السريعة في المملكة تُقدّر بمليارات الريالات سنويًا، جزء كبير منها يُستهلك بسبب التآكل الناتج عن مرور الشاحنات الثقيلة. كما أن الاعتماد الكلي على الشحن البري يزيد من استهلاك الوقود، ويضاعف من انبعاثات الكربون والتلوث البيئي، في وقت تتبنى فيه المملكة أهدافًا طموحة نحو الحياد الصفري وخفض البصمة الكربونية.
في المقابل، هناك نموذج عالمي بديل أثبت فعاليته: قطارات البضائع. العديد من الدول، مثل ألمانيا، والولايات المتحدة، طورت خطوط سكك حديدية مخصصة لنقل البضائع لمسافات طويلة، ووجدت فيها حلاً ناجعًا لتخفيف الضغط على الطرق، وتسريع سلاسل الإمداد، وتقليل الانبعاثات، وخفض التكاليف التشغيلية.
تصوّري لو تم تنفيذ خط قطار بضائع بين الدمام والرياض، يمتد عبر الصحراء، ويتصل مباشرة بالموانئ والمستودعات، ويعمل بشكل متواصل على مدار الساعة.. حينها ستصل الحمولات الثقيلة بسرعة، وسينخفض عدد الشاحنات في الطرق، وسينتعش النقل المحلي الخفيف لتوزيع البضائع، وستتاح للطرق فرصة للراحة والترميم، وسيشعر السائقون، للمرة الأولى منذ سنوات، بأنهم يقودون بأمان واستقرار.
بل أكثر من ذلك، فإن تقليل عدد التريلات على الطرق سيتيح استخدام تقنيات حديثة لتنظيم السرعات عبر لوحات إلكترونية ديناميكية تستجيب للزحام والظروف الجوية، وتسمح برفع السرعة في المسارات الخالية، بدل البقاء أسرى لوحات جامدة تُربك السائق وتزيد من الخطر.
أنا لا أطالب بإلغاء الشاحنات، بل بإعادة توزيع لأدوار النقل. التريلات تبقى مهمة في التوزيع المحلي والتوصيل النهائي، لكن لا يجب أن تكون العمود الفقري الوحيد لنقل البضائع بين المدن. المملكة تسير في طريق التحول اللوجستي الذكي، وهذه فرصة لترجمة الرؤية إلى واقع يراه الناس في حياتهم اليومية، لا فقط في المخططات الاستراتيجية.