آخر تحديث: 29 / 7 / 2025م - 3:19 م

خواطر في المشي

غسان علي بوخمسين

المشي الطليق فعل غنائي يفتح عين السائر على جميع الجهات، وعمل شعري، له إيقاعه الذي يختلط فيه الصمت بالحركة، وهو فعل رتيب يربط بين خطوة وأخرى تشبهها، وبداية تغلقها نهاية، وتجربة يتأمل الفكر فيها أحكامه، ومجال للتذكر والاستبصار مشبع بالهدوء والوحدة. المشي فعل تحرري من أسر وحبس الجدران المغلقة، وكأنه صرخة في وجه الكبت والجمود والسكون والحصر والقولبة في أطر محددة تخنق الروح والجسد. المشي ثورة على القيود والأغلال للإنطلاق في فضاء الحرية المفتوح. المشي أصل أصيل ومظهر جلي للمظاهرات والمسيرات الاحتجاجية السلمية المتحضرة. المشي رياضة صحية للبدن ومجانية لا تكلف شيئاً، ومنافعها عظيمة على الروح والجسد. فالمشي في الهواء الطلق والجو المعتدل يحسّن المزاج ويريح النفس ويصّفي الذهن ويزيل الكآبة والسأم.

فوائد المشي الصحية أكثر من أن تحصى، فهي أكثر رياضة ينصح بها الأطباء المرضى والأصحاء على السواء، وهي من أفضل الرياضات لمرضى السمنة والسكري وارتفاع ضغط الدم وغيرها من الأمراض المرتبطة بالسمنة. للمشي آثار إيجابية على البدن، فهو يساعد على حرق السعرات الحرارية بشكل أفضل وهذا يخفض الوزن، وكذلك يُحسّن من حساسية الخلايا للأنسولين وهذا مهم لمرضى السكري، ويساعد على خفض الدم المرتفع، ويحسّن الدورة الدموية وهذا يساعد على وصول الأكسجين للخلايا بشكل أفضل، ومع استمرار المشي لمدة تزيد عن نصف ساعة يبدأ إفراز الأنكفالين التي لها دور في تحسين المزاج وتخفيف الالم، بل أن المشي يؤدي إلى زيادة حجم ”هيبوكمبس“ الحصين، وهي منطقة في الدماغ ضرورية للذاكرة، كما يرفع مستويات الجزيئات التي تحفز تكوين روابط عصبية بين الخلايا وانتقال الرسائل العصبية. فالمشي له تأثير خاص لا يمكن الحصول عليه عبر ممارسة الأنشطة الرياضية الأخرى مثل الذهاب للنادي أو رفع الأثقال، فعندما نمشي فإن وقع خطانا يتناغم طبيعيا مع المزاج والحديث الداخلي داخل أنفسنا. كما أنه يمكننا تغيير سرعة هذه الأفكار عبر تغيير سرعة المشي.

لي تجربة شخصية مع المشي، فقد التزمت بممارسة المشي بانتظام في أروقة المستشفى في أوقات فراغي ما أمكنني ذلك، وعندها لاحظت أن المكان يعجّ بالحياة وينبض بالحركة، وصرت ألحظ مشاهدات بعين مختلفة لم أكن ألحظها في السابق، بسبب انشغالي وتواجدي في مكان واحد ومعزول عن الأماكن المحيطة.

لا عجب أن كان المشي ملازماً للفلاسفة والمتأملين منذ القدم، ومن أشهرهم المعلم الأول «أرسطو»، فقد كان محباً للمشي وكأنه تفطّن بعبقريته الفذة لفوائد المشي للعقل والجسم معاً، فكان مدمناً للمشي حتى أنه كان يعطي دروسه لطلابه أحياناً وهو يمشي، ولذلك سميت فلسفته بالمشّائية «Peripatetics». كما عُرفت المدرسة الرواقية «Stoicism» بهذا الاسم نسبة إلى الرواق، وهو ممر طويل مزين بمشاهد المعارك الأسطورية والتاريخية على الجانب الشمالي من الأجورا «Agora» في أثينا، وقد اعتاد الرواقيون المشي فيه أثناء مناقشاتهم الفلسفية. كما أن المشي طقس أصيل في الرياضات التأملية في الديانات الشرقية كالبوذية وغيرها.

المشي يعتبر جزءاً من العبادة في الإسلام، فالمشي إلى العبادة عبادة، فقد ندب الشارع المقدس إلى المشي في الصلاة والحج. كان الأئمة والصالحون يحرصون على الحج والزيارة مشياً، لما في ذلك من الثواب الجزيل، والعجيب في فريضة الحج أن معظم مناسكه ترتكز على المشي كالطواف والسعي والرمي فكلها عبادات بدنية قوامها الأساس هو المشي.

ومن أكبروأعظم تجليات ممارسة المشي في الشعائر العبادية في زمننا الحاضر، هو شعيرة المشي في زيارة الحسين ، حيث تسير اليه الملايين في عدة مواسم خلال السنة، بأعداد تصل لعشرات الملايين في تظاهرة دينية إنسانية فريدة من نوعها.

والايات القرآنية التي تحث على المشي كثيرة منها قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة العنكبوت 20] كذلك دُعينا للسير في الأرض وقراءة كتاب الحياة والتأمل في مآلات السابقين.

قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ [سورة الروم 42].

قال تعالى ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [سورة الحج 27].

نعاني في حياتنا اليومية من نمط معيشي صاخب ذهنياً بحيث يُجهد ويشغل عقولنا إلى حدودها القصوى، لكن من جهة أخرى هو خامل بدنياً بحيث لا نقوم بأي نشاط بدني لنحافظ على سلامة ذهننا وبدننا، وهذا أحد مكامن الخلل في حياتنا المعاصرة. علينا أن نجعل من المشي ركناً أساسياً في حياتنا وجزءاً أصيلاً من سلوكنا اليومي لا نتخلى عنه.

للأسف مع توفر وسائل النقل وصعوبة الطقس لدينا في الصيف، أدى ذلك إلى ضعف ثقافة المشي لدينا، وحبذا لو حاولنا إشاعتها والسعي إلى نشرها بين أوساطنا، فهي مجانية وبسيطة وفوائدها عظيمة ولا تحتاج إلى أدوات خاصة، بل تحتاج فقط إلى إرادة وعزيمة للانطلاق في السير في درب الحياة بكل حيوية ونشاط.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
جواد داود
[ القطيف ]: 23 / 7 / 2025م - 12:52 م
مو كل من يمشي يعيش هذه التجربة التأملية. البعض يمشي وهو مشغول في جواله! نحتاج إلى “وعي بالمشي” لا فقط دعوة للمشي.