حين يُصبح الطقس عبئًا لا ينعكس على الفاتورة
في المدن الحارة لا يكون تشغيل المكيفات رفاهية، بل حاجة يومية تمس الصحة والسلامة النفسية والبدنية. وبينما يحظى الطقس باهتمام كبير في نشرات الأخبار، فإنه لا ينعكس على سياسات التسعير ولا على أنظمة العمل، رغم أن أثره على نمط الحياة والاستهلاك مباشر وحاسم.
يدفع سكان بعض المناطق فواتير كهرباء مرتفعة جدًا فقط لأن الجغرافيا قررت لهم أن يعيشوا في حرارة تتجاوز الخمسين درجة مئوية، بينما تستند التعرفة إلى حسابات لا تميز بين من يستخدم التكييف اضطرارًا ومن لا يحتاجه أصلًا.
ارتفاع الفواتير في المدن الحارة لم تعد مسألة فردية تتعلق بسلوك المستهلك، بل تحول إلى مسالة بنيوية تستدعي مراجعة جادة لنماذج التسعير الحالية. ليس من المنطقي أن يُطلب من مواطن في مدينة حارة أن ”يرشد“ استهلاكه، بينما هو في واقع الأمر يحاول فقط أن يعيش في بيئة محتملة. هذا النوع من التفاوت لا يمكن التعامل معه بسياسة موحدة لا تراعي التباين المناخي بين المدن. فالعدالة لا تعني أن يتساوى الجميع في الدفع، بل أن يتحمل كلٌ عبء ما يحتاجه فعليًا، لا ما يُفترض نظريًا.
دول كثيرة واجهت هذا النوع من التحدي بمقاربات عملية. في الولايات المتحدة، تُمنح إعانات مباشرة لسكان الولايات التي تتعرض لموجات حر أو برد شديدة، وذلك عبر برامج مخصصة لدعم فواتير الطاقة. يتم تقييم الأهلية بناءً على درجة الحرارة في المنطقة، وعدد أيام السنة التي تتطلب استخدامًا مكثفًا لأجهزة التدفئة أو التكييف. في أستراليا، تُمنح الأسر في المناطق ذات المناخ القاسي تخفيضات على فواتير الكهرباء، ويتم تحفيزها على استخدام أجهزة أكثر كفاءة دون أن تُجبر على التنازل عن راحتها الأساسية، وفي سنغافورة، أُدرج المناخ ضمن معايير تخطيط المدن، فتم تصميم الأبنية بحيث تسمح بمرور الهواء وتقليل الاعتماد على التكييف.
في السعودية، ورغم الجهود التي تُبذل في رفع كفاءة الطاقة، لم تُدرج درجات الحرارة كعامل مؤثر في نموذج تسعير الكهرباء. هناك مدن تُسجّل كل عام درجات حرارة شديدة الارتفاع، ومع ذلك تُعامل من حيث الفاتورة مثل مناطق أكثر اعتدالًا. يُطلب من السكان أن يُعدّلوا استهلاكهم، لكنهم في الواقع لا يملكون بدائل؛ فالمباني القديمة غير معزولة، وأسعار الأجهزة الموفرة للطاقة ليست في متناول الجميع.
المسألة لا تقتصر على الفاتورة المنزلية فقط، بل تمتد إلى أماكن العمل. العامل في بيئة حارة لا يحصل غالبًا على بدل مناخ، ولا يُعاد النظر في ساعات دوامه، رغم أن التعرض المباشر للحرارة قد يؤثر على إنتاجيته وسلامته. في حين أن بعض المؤسسات تُكيّف أوضاع موظفيها في الظروف المناخية الباردة أو الرطبة، لا تحظى المناطق الحارة بنفس الاهتمام، مع أنها أشد قسوة في بعض الحالات.
الحلول لا تحتاج إلى نماذج معقدة. يمكن إعادة النظر في التعرفة وفق مؤشرات مناخية سنوية، أو تقديم دعم موسمي للفئات الأشد تضررًا. ويمكن إلزام المطورين العقاريين بكود بناء فعّال يضمن تقليل استهلاك الطاقة، مع تقديم تسهيلات لتحسين المنازل القائمة مثل العزل الحراري أو استبدال النوافذ، كما أن مراجعة أنظمة العمل في المدن الحارة بات ضرورة، سواء عبر بدلات مناخ، أو إعادة توزيع ساعات العمل لتجنب فترات الذروة الحرارية.
إذا كنا نتحدث عن الاستدامة، فلا بد أن نبدأ من الإنسان، لأن استدامة راحته وصحته، هي القاعدة التي تُبنى عليها كل السياسات الأخرى.