يُطهّرهم ويلوّثون سمعته
جمع أسرته في الغرفة التي كانت مجلسًا، ثم تحولت لقاعة طعام، فالزيارات انقطعت منذ زمن ولم يعد بحاجة لمجلس.
دخلت زوجته ثم ابنته وولديه، فرأياه يضع رأسه بين ركبتيه، احتواهم الصمت، ينظرون لأمهم ثم لبعضهم وسؤال يكاد يهرب من عيونهم: ماذا جرى؟
قال: من اليوم لن نخرج من المنزل، سنطلب حاجاتنا من البقالة وسيوصلها العامل للباب.
قالت زوجته: ما الذي حدث؟
يعود الصمت ليعانق الجميع.
تقترب منه ابنته وتهمس: ما الجديد يا أبي؟
قال وقد انهمرت دموعه: ”آخر شي كنت أتوقعه، عمكم، أخوي من لحمي ودمي، يقول لي ما أقدر أزوج بنتي لولدك لأنك مغسّل موتى!!“.
هل أذنبت لأني أطعت العلماء، وطمعت في ثواب الله؟
فما غسّلت ميتًا إلا سمعت توجيهات الشيخ عبدالله في رأسي، افعل كذا ولا تفعل كذا، وأنا أقوم بواجبي بحذر واحتياط كأني طالب في قاعة امتحان يحاول أن يتجاوز المادة بأقل الخسائر.
كل ما مرّ بي من مواقف محرجة، وكلمات جارحة، وضعتها في صندوق وأقفلته، لكن أخي! لا أستطع أن أفهم كيف مال لناحيتهم وهو يعلم أن ما حدث كان اضطرارًا، فلو لم أتقدم لبقي أبونا بلا تغسيل.
كان الحجي أبو سلمان المغسل مريض، وقد تعطلت جنازة الوالد ساعات، فقال الشيخ عبدالله: من يتقدم لتغسيل المرحوم وأنا أرشده وأوجهه للقيام بذلك حسب المتطلب الشرعي؟
خيّم الصمت على الجميع، وتغيرت ألوانهم، كأنهم يواجهون ميتًا خرج من قبره.
قال: يُعدّ تغسيل الميت من الواجبات الكفائية، أي إذا قام به البعض سقط عن الباقين. ولمن يقوم بتغسيل الميت الثواب العظيم، فقد ورد عن رسول الله ﷺ أنه قال: ”مَنْ غَسَّلَ مَيِّتاً فَأَدَّى فِيهِ اَلْأَمَانَةَ كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنْهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَرُفِعَ لَهُ بِهِ مِئَةُ دَرَجَةٍ“.
أخذتني الغيرة على أبي، والرغبة في الثواب، فتقدمت وقلت بكل أدب: تفضل شيخنا.
كان جسد أبي ممدًا على دكة المغتسل، وقد غُطي وجهه بغترة، وروائح السدر والكافور تحيط بالمكان، تقدمت ونزعت ملابسه، وسترت عورته بقطعة قماش بيضاء، ثم بدأت أسكب الماء وأقلبه، والشيخ يوجهني، إلى أن لففته بالكفن، وقبل ذلك انحنيت وقبلته في جبينه، وكأنني أطلب منه الصفح عن الساعات التي بقي فيها دون غسل.
وتقدم أهل القرية للصلاة عليه ثم تشييعه، ودفن قريبًا من قبر جدي.
ثم بعد وفاة الحجي أبي سلمان طُلبت لتغسيل ثاني وثالث حتى صرت مغسّل القرية الرسمي، وخصوصًا بعد أن أوصى الشيخ عبدالله أن أتولى تغسيله وتكفينه، لثقته بمعرفتي بالأحكام الشرعية، واتقاني العمل بإخلاص وسرية.
هل كان جزاء عملي أن يقاطعني المجتمع!! حتى أن بعضهم إذا رآني جلست بقربه يرفع يده عن الطعام ويغادر، والبعض يرفض أن يأخذ من يدي قارورة الماء.
أما الكلمات الجارحة فإني أسمعها كل يوم تقريبًا، بل وصل في بعضهم أنهم يستعيذون بالله حال رؤيتي.
لا تربطني علاقة مع رائحة الكافور، ولا قرابة مع القطن والأكفان، بل يقشعر بدني عند ملامسة جسد بارد، لكن رضا الله لا رضاهم هو مطلوبي.
ثم نظر لابنته وقال بعيون منكسرة: هل تعلمين لماذا لا يتقدم أحد لخطبتك؟ لأنك ابنة مغسّل الموتى.
وبعد صمت خيّم على المكان يشبه صمت المقابر، قال بصوت خفيض: ولكي لا أظلم مجتمعي فهناك من ينظر إليَّ نظرة تقدير وامتنان، لكنهم قليلون.
همهمت الأم بصوت غير مفهوم، فاتجهت لها الوجوه تستفسر، فأبانت: كلنا نمر بما تمر به، ونسمع ما سمعته، ونحاسب بذنبك إذا كان لك ذنب.
فغر فاه وقال: ماذا؟ حتى أنتم؟ وساكتون؟!
قالت البنت وهي تربت على كتفه: كنّا نبلع المرّ ونسكت، فالعيب في تفكيرهم وسلوكهم المشين، أدارت نظرها بين الموجودين وأكملت: كلّنا يعرف قصدك النبيل، ونيّتك الطاهرة، لكن ابتلينا بجهل مركب.. ما أقساه من مجتمع!
قال الابن الأكبر: كثيرًا ما كنت أدافع عن عملك التطوعي بما سمعته من السيد حسين، قال: إن أحد رجال الأعمال في إحدى الدول كان مليارديرًا، وكان يتقرب إلى الله بتغسيل موتى المؤمنين.
وتقدم الابن الأصغر وقال وهو يمسح دمعة: كنت في زيارة لزميلي في المدرسة، وقد طردتني أمه من عند الباب، ثم أخبرني أن أباه كان مريضًا وأمه خافت من الفأل السيئ.
وقف وفتح ذراعيه وضمهم إلى صدره وقال: لقد آذيتكم، سامحوني.
قالت ابنته: لا يا أبي نحن سعداء بعملك، لكن نتمنى أن يفهم الناس حاجتهم لك.
وقطع حديثهم اتصال من رقم مجهول، تركه الأب وكأنه لا يسمعه، وتكرر الاتصال، وهو يقول: لا بد أن أحدهم توفي ويريدون من يغسّله، دعهم يبحثون عن غيري.
وجاء اتصال من مسؤول المقبرة، ليؤكد كلامه، وواصل تجاهله لاتصالاتهم.
بعد عشر دقائق سمعوا طرقًا على الباب، لكنه رفض أن يتحرك أي أحد منهم أو يجيب المنادي.
بعد نصف ساعة سمع صوت الشيخ محمد يناديه، وهمّ أن يتحرك لكن عاد إلى سكونه وأمسك أرضه.
اقتربت منه زوجته وأمسكت يده كأنها تساعده على القيام: قم يا حبيبي، فأنت تطلب الثواب، ورضا الله خير مما يظنون.
قالت ابنته وهي تجفف دموعها: أصبح «مغسل الموتى» ملتصق بك كجلدك لا يمكن خلعه، حتى إن مزقته سينمو غيره، وابتسمت في وجهه وهي تشجعه على مواصلة خدمته لمجتمعه.
قام وفتح الباب فوجد الشيخ محمد وبعض رجالات القرية يستفسرون عن سبب صمته، فابتسم في وجوههم وهو يتمتم: إن للبيوت أسرارها.
وتقدم وهو يلعن الشيطان الرجيم، ويترحّم على الشيخ عبدالله.
وعندما قابل أخاه بين المشيعين قال له: ستموت ولن تجد من يغسلك.
ثم أنشد:
وَلِي فُؤَادٌ رَقِيقٌ فِي مَشَاعِرِهِ
لَكِنَّهُ مُجْرِمٌ إِن عَافَ أَو غَضِبا
ومشى خلف الجنازة، ممسكًا بغصن ريحان، ورأسه ساحة معركة تتصارع فيها جيوش الأفكار، هل يستمر أم يستقيل؟