النوادر الياسرية ”6“.. لستُ أدري
في إحدى الجهات الرسمية، انطلق من هاتف أحدهم صوت لطمية ذات إيقاع سريع ونبرة عالية لرادود شهير، فانعكس ذلك على ملامحي بتجهم واضح. سألني صاحبي عن سبب هذا التجهم، فاكتفيت بالرد بالمثل الخليجي الشهير: ”خلها في القلب تجرح ولا تطلع على لساني تفضح.“ لكنه أصر على معرفة السبب...
فقلت له: أصحاب نغمات الجوال بهذه الشاكلة لا يخلو أمرهم من واحدةٍ من ثلاث:
1. إما أنه يسعى إلى إظهار الولاء بصورة مُبالَغ فيها، متقمصًا دور عابس بن أبي شبيب الشاكري في قوله ”حب الحسين أجنني“، فيكون ذلك أقرب إلى الرياء أو خداع النفس قبل الآخرين.
2. أو أنه يستمتع برؤية ملامح التجهم على وجه الطرف المختلف عنه، وكأنما أحرز انتصارًا في معركة وهمية، متجاهلًا أن روح مدرسة أهل البيت تقوم على زرع المحبة لا الاستفزاز.
3. أو أنه شخص ماكر يتصنع هذا الشكل الولائي لغرضٍ في نفسه، سواء كان مكسبًا ماديًا أو هدفًا آخر.
فابتسم صاحبي وقال: ”لعلك نسيت الحالة الرابعة...“
فسألته: ”وما هي؟“
فأجاب ”: حشر مع الناس عيد!“ أي أنه لم يتأمل الأمر، بل رأى الجميع يتخذ هذا السلوك فسار معهم دون تفكير.
قلت: ربما... لكنني بصراحة أعجب من حالة الابتذال لهذه الشعائر المقدسة، فهي في أصلها عامل لاستدرار الدمعة والتفاعل مع مصاب الإمام الحسين ، وهي محل إجلال وتقدير، ولكن ضمن نطاقها المتعارف عليه، لا أن تصبح نغمة هاتف تُسمع في السوق أو دورات المياه—أكرمكم الله—فلا مكانها هناك ولا زمانها كذلك.
ونفس الأمر يجري على القرآن الكريم، فتجد مطاعم باچة وكوارع تصدح بآياته بين أصوات البيع والشراء، ولا أدري هل ينطبق عليهم قوله تعالى:
﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: آية 204].
أو قوله:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال: آية 2].
أم أن لسان حالهم هو:
”وإذا قرئ القرآن اتسعت أفواههم وتصارعت أسنانهم وزادت قهقهاتهم“
وهكذا يبقى السؤال مفتوحًا… هل نحن نعيش الشعائر بروحها أم نختزلها في مظاهرها؟
لستُ أدري، كما قال إيليا أبي ماضي.