آخر تحديث: 29 / 7 / 2025م - 12:42 م

صندوق الاستثمارات العامة بعد تخطي تريليون دولار

الدكتور إحسان علي بوحليقة * صحيفة مال

بينت القوائم المالية المُجمعة والمدققة من قبل شركة كي بي إم جي «KPMG» للعام 2024، والتي نشرت بتاريخ 30 يونيو 2025، أن موجودات صندوق الاستثمارات العامة تجاوزت 4.3 تريليون ريال «1.15 تريليون دولار»، أي ما يوازي 91.5 بالمائة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي للمملكة للعام 2024 بالأسعار الثابتة، بزيادة في قيمة موجودات الصندوق 16.2 بالمائة مقارنةً بالعام 2023، حيث نمت من 3.7 تريليون إلى 4.3 تريليون خلال العام.

وعلى امتداد عمر صندوق الاستثمارات العامة «تأسس العام 1971» لم يبتعد اهتمامه أبداً عن الاستثمار الاستراتيجي. وعبارة ”الاستثمار الاستراتيجي“ تستحق التوقف فهي مرتكز السياسة الاستثمارية للصندوق، فما هو الاستثمار الاستراتيجي وكيف يتمايز عن بقية أصناف الاستثمار؟ الاستثمار الاستراتيجي عندما تستثمر شركة في أخرى بهدف تحقيق مكاسب طويلة الأجل، كالوصول إلى تقنيات جديدة، أو بهدف التوسع في أسواق جديدة، أو تعزيز قدراتها التشغيلية، فيكون لذلك الأولية على مجرد تحقيق الربح المالي. عادةً ما يكون الاستثمار في صورة حصة أقلية، مما يسمح بالتعاون دون السيطرة الكاملة على الشركة الأخرى.

وللمضاهاة فهناك أنواع أخرى من الاستثمار، مثل الاستثمار المالي واستثمار رأس المال الجريء، واستثمار الملكية الخاصة، والاستثمار العقاري، والاستثمار في السلع، والاستثمار ذو الدخل الثابت، والاستثمارات البديلة، حيث تركز هذه الأنواع على العوائد المالية كهدف أولي بدلاً من العوائد الاستراتيجية. أما الاستثمار الاستراتيجي فيهدف إلى مزايا طويلة الأجل مثل الوصول إلى الأسواق أو التقنيات - كما سبقت الإشارة - في حين تركز الأخرى على الدخل أو النمو، أو المضاربة. ويقتضي السياق التنويه إلى أن الاستثمارات المالية هي الأكثر شيوعًا، وتشمل الأصول مثل الأسهم والسندات لتحقيق تقدير رأس المال أو الدخل، أما الاستثمار الاستراتيجي فهو ما يميز توجه صندوق الاستثمارات العامة، وهذا لا يعني مطلقاً ألا تشمل محفظته الاستثمارية أصنافاً أخرى من الاستثمارات ساعية للربح في المدى القصير، لكن مرتكز استثمارات الصندوق هو الاستثمار الاستراتيجي انطلاقاً من أنه صندوق سيادي يعمل وفق استراتيجية مُقّرة، وتملك أصوله دولة طموحة تسعى لتحقيق مستهدفات تحولية طويلة المدى وفق رؤية محددة التوجهات.

وبالقطع فبعد انطلاق رؤية المملكة 2030 أخذ اهتمام الصندوق بالاستثمارات الاستراتيجية أعماقاً أعمق وأبعاداً أوسع، بأن أنيطت بالصندوق المهمة الحرجة «critical mission» للاستثمار في القطاعات الاستراتيجية لتحقيق الرؤية، مثل التقنية والطاقة المتجددة والسياحة والبنية التحتية اللازمة لقيام المشاريع الإنتاجية. وأعلن عن ذلك بعد إعادة هيكلة الصندوق وبالعمل باستراتيجيته الجديدة، التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في بداية العام 2021، مبيناً سموه أن المستهدف المرحلي هو أن تتجاوز موجودات الصندوق 4 تريليون ريال في العام 2025، و 7.5 تريليون ريال في العام 2030. وقد تحقق في نهاية العام 2024 المستهدف المرحلي للموجودات قبل الوقت المحدد، كما بينت القوائم المالية المدققة للصندوق.

ماذا بعد ان تخطت قيمة موجودات صندوق الاستثمارات العامة التريليون دولار؟ الإجابة المباشرة هي - وانطلاقاً من مستهدفات استراتيجية الصندوق - أن الصندوق سيواصل السعي لتنمية موجوداته حتى تصل إلى 7.5 تريليون ريال في العام 2030، ولا يبدو أن ذلك متعذراً أخذاً الاعتبار جملةً من النقاط:

لن يتخلى الصندوق عن مواصلة تركيزه على الاستثمار الاستراتيجي، ففيه تتجسد القوة الاستثمارية للمملكة التي تحدث عنها سمو ولي العهد:، إبان إطلاق الاستراتيجية الجديدة للصندوق في العام 2021: ”في صندوق الاستثمارات العامة لا نستثمر في الأعمال والقطاعات وحسب، بل نستثمر في مستقبل المملكة والعالم، وغايتنا أن يكون وطننا الرائد للحضارة الإنسانية الجديدة، وتهدف استراتيجية الصندوق إلى تحقيق مستهدفات الرؤية عبر تعظيم أصول الصندوق، واطلاق قطاعات جديدة، وبناء شراكات اقتصادية استراتيجية، وتوطين التقنيات والمعرفة، مما يسهم في دعم جهود التنمية والتنويع الاقتصادي بالمملكة، وان يرسخ مكانته ليكون الشريك الاستثماري المُفضل عالمياً.“

أن هيكلة مصادر تمويل صندوق الاستثمارات العامة تختلف عما هو سائد في الصناديق السيادية التي تملكها الدول النفطية، مثل الصناديق التي تملكها حكومات دول مجلس التعاون الخليجي أو النرويج حيث يمولها ضخ فوائض العوائد النفطية، في حين أن الصندوق يعتمد على الضخ الحكومي ونقل ملكية الأصول والأرباح المبقاة والاقتراض وليس الإيرادات النفطية مباشرة. هذه الهيكلة المركبة تبين أن صندوق الاستثمارات العامة يتبع نهجاً متمايزاً عن الصناديق السيادية التقليدية هو أكثر تعقيداً؛ إذ أن مهمة الصندوق ليس فقط تنمية الأموال الفائضة، بل تنمية الاقتصاد والسعي حثيثاً لتنويعه وخلق المزيد من فرص العمل، وهكذا فأجندة الصندوق ليست مالية فقط بل اقتصادية كذلك.

من المؤمل أن تحقق عديداً من استثمارات الصندوق الاستثمارية نمواً في القيمة وفي التدفقات النقدية، ولاسيما الاستثمارات في مجال التقنية، إذ أن هذه الفئة تنمو نمواً تصاعدياً متواصلاً في المدى المتوسط وليس الطويل مقارنة بالاستثمارات الاستراتيجية في القطاع الصناعي أو القطاع السياحي.

امتلاك الصندوق لوضع مالي صَلدّ ولسياسة مالية متحفظة ولسيولة نقدية ملائمة تمكنه من الاستجابة لمتطلبات تحقيق استراتيجيته، وذلك استنادا إلى: «1» تصنيف ائتماني رفيع من وكالات التصنيف العالمية، حيث تصنفه وكالة موديز عند Aa3K, وتصنفه وكالة فيتش عند A+. «2» ونسبة منخفضة للدَين إلى الملكية «gearing ratio» 21.9 بالمائة للعام 2024، حيث أن ديون الصندوق بلغت 540 مليار ريال مقابل 2.6 تريليون ريال مُلكية «equity». ولابد هنا من بيان أن انفتاح الصندوق على الاقتراض باعتباره أحد مصادر التمويل يتطلب النظر إلى الأمرين: التصنيفات الائتمانية ونسبة الدين إلى الملكية، وكلاهما يبينان الفسحة المالية التي يرتكز إليها الصندوق. وبالمقابل فنموذج عمل بعض الصناديق السيادية لا يتطلب اقتراضاً مثل الصندوق السيادي النرويجي، وليس له تصنيف ائتماني.

استناداً إلى ما تقدم، يبرز سؤال: رغم أن الربحية مؤشر مهم للأداء فهل هي أثقل في الميزان أم المساهمة في تحقيق التنوع الاقتصادي، وذلك في المدى القصير والمتوسط؟ بالتأكيد أن الربحية أمر لا يمكن تجاوزه، فهو الضامن للاستدامة، فالمشاريع التي لا تربح لا تستطيع أن تستمر. هذا عموماً، لكن ثمة تفصيل: بالنسبة للمشاريع الجديدة التأسيسية فالأمر يتطلب فترة زمنية قد تطول أو تقصر تبعاً لطبيعة النشاط وتعقيده، بل ويتفاوت تفاوتاً كبيراً حتى ضمن القطاع الواحد، فمثلاً في المشاريع الصناعية تتراوح فترة استرادا رأس المال بين 5-10 سنوات وقد تأخذ وقتاً أطول للمجمعات الصناعية المعقدة. كما أن فترة استرداد رأس المال للمشاريع الخدمية مثل المدن الترفيهية والمنتجعات السياحية والفنادق ليست أقصر؛ إذ تتراوح الفترة بين 6-12 سنة، وبالمقارنة فمشاريع صغيرة نسبياً الشائعة مثل المطاعم فالفترة تتراوح بين سنة واحدة وثلاث سنوات. إذن، لابد من الربحية ”مهما طال الانتظار“، وفترة استرداد رأس المال مؤشر مهم على مستوى المشروع الواحد فهي الفترة لاستعادة المستثمر تكاليفه عبر التدفقات المالية، وبعد تلك الفترة يبدأ المستثمر في تحقيق أرباح. وفي ذات السياق تتفاوت فترة استرداد رأس المال تبعاً لحجم المنشأة؛ ففي حال المنشآت الصغيرة يصل سقف الفترة إلى 3 سنوات، والمتوسطة 10 سنوات، وقد يصل السقف إلى 20 سنة للمشاريع الكبيرة. وإجمالاً، فإن المشاريع ضخمة الاستثمار المبدئي «initial investment» تكون فترة الاسترداد أطول، وطول هذه الفترة يزيد من المخاطر التي قد تؤثر على أداء المشروع وخصوصاً المخاطر الخارجية النابعة من عوامل جيوسياسية أو اقتصادية.

أما تحديداً، فعند الحديث عن الربحية في القوائم المالية لصندوق الاستثمارات العامة، فنحن لا نتحدث عن شركة بل عن صندوق سيادي مستهدفاته استراتيجية، أي طويلة الأمد، كما سبقت الإشارة. ومع ذلك يبرز سؤال: هل يملك الصندوق التحوط في حال تراجع الأرباح مستقبلاً حتى لا يؤثر ذلك على استمراره في تنفيذ استراتيجيته ليساهم في تنفيذ رؤية المملكة 2030؟

على الرغم من تراجع أرباح الصندوق في العام 2024 بنحو 60 بالمائة مقارنة بالعام 2023 وهو تراجع عزته وكالة رويترز إلى ثلاثة أسباب:

1. ارتفاع تكاليف الفائدة،

2. التضخم،

3. تراجع قيمة بعض الأصول «impairments».

إلا أن الصندوق يمتلك الفسحة المالية والثبات لتحقيق مستهدفاته في النمو، إذ أن توجهه الاستثماري استراتيجي لا يرتكز على الأرباح كمصدر لتغذية التوسع والنمو في المدى القصير. فضلاً عن أن امتلاك الصندوق للفسحة المالية أمر جوهري الأهمية يمكنه من الاقتراض بشروط تفضيلية، كإصداره - على سبيل المثال - في مطلع العام الحالي «2025» سندات بقيمة 4 مليار دولار لتمويل مشاريع رؤية المملكة 2030، وهي مشاريع يملكها الصندوق وبحاجة إلى ضخ نقدي مستقر فقد تغطت 4 مرات. فضلاً، عن أن الصندوق يملك السيولة للتحوط في حال تراجع الأرباح مستقبلاً بما لا يعيق استمراره في تنفيذ استراتيجيته، فكما تبين قوائمه المالية المدققة للعام 2024، يملك الصندوق نقداً قدره 315.9 مليار ريال، ما يعني تحوطاً ملائماً في حال استمرار تراجع الربحية أو استمرار ارتفاع سعر الفائدة.

لا شك أن نشاط صندوق الاستثمارات العامة وإيقاعه العالي في إطلاق المبادرات، وتأسيس شركات جديدة، وامتلاك حصص في شركات قائمة، قد اجترح حِراكاً مُلفتاً، وديناميكية دؤوبة لا تعرف التقاط الأنفاس، ونهجاً متوثباً لا تنقصه الجرأة، مما جَلَب نَفَساً متقدةً لبيئة الأعمال في السعودية. وكما هو معروف فحِراك الصندوق مرتكزٌ إلى استراتيجيتهِ التي أعلن سمو ولي العهد قبل نحو ثلاثين شهراً «يناير 2021» أنها تتضمن خمسة محاور:

• إطلاق قطاعات واعدة
• تمكين القطاع الخاص
• نمو محفظة الصندوق محلياً ودولياً
• تحقيق استدامة الاستثمار بفاعلية
• الشراكات وتوطين التقنيات والمعرفة.

وليس من شك أن الإمكانات الاستثمارية الهائلة التي يمتلكها الصندوق، جعلته يعمل على تحقيق تقدم بالتوازي على المحاور الخمسة أعلاه، فقد حقق استثمارات في 13 قطاعاً استراتيجياً، وأطلق مبادرات لزيادة المحتوى المحلي لشركاته إلى 25 بالمائة بحلول العام 2025، ودعم برنامج تطوير الموردين لشركات الصندوق، وإنشاء منصة للقطاع الخاص تهدف لتمكين القطاع الخاص المحلي التعرف على الفرص المتاحة.

وليس محل شك ان دور صندوق الاستثمارات العامة النشط في الاقتصاد المحلي يضيف إمكانيات لم تكن متوفرة عندما كان دور الصندوق ساكناً قبل انطلاق الرؤية؛ إذ أن الصندوق مستثمر طويل المدى ما يمكنه من استكشاف وتأسيس أنشطةٍ اقتصاديةٍ جديدة، وهذه تتطلب سنوات ممتدة لتحقيق عائد باعتبار أن الاطلاق يعني: بنية تحتية وتنظيمية وفوقية تستوجب استقطاب شركاء تقنيين وممولين، وتحمل مخاطر عالية لا قبل لمصفوفة مخاطر القطاع الخاص بها.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
علي السادة
6 / 7 / 2025م - 7:58 م
تحليل اقتصادي دقيق لكن تمنيت فيه لغة أسهل شوي للقارئ العام لأن بعض المصطلحات يمكن ثقيلة على غير المختصين.
كاتب ومستشار اقتصادي، رئيس مركز جواثا الاستشاري لتطوير الأعمال، عضو سابق في مجلس الشورى