آخر تحديث: 2 / 8 / 2025م - 5:21 م

الحدَاثة

محمد الحميدي

تختلفُ الأزمنةُ باختلافِ أهلِها، إذ لكلِّ زمانٍ سلوكٌ معيَّن يتفاعلُون من خِلاله ويمارسُون حيَاتهم بِناء على تِكراره وانتِشَاره، والكتابَة تدخُل ضِمن السلوكيَّات الزمانيَّة التي تختلِف ممارستُها باختِلَاف الأزمِنَة والأمكِنَة والوسائِل والمتغيِّرات والحوادِث، ولعلَّ أكبَر الشَّواهد التاريخيَّة يتمثَّل في الفَارق الكَبير بينَ العهدَين الجاهِلي والإسلَامي من ناحِية التَّدوين؛ حيثُ العرَب قَبل الرِّسالة لم يهتمُّوا بتدوِين معارِفهم وحِفظها أمَّا بَعد الرِّسالة فاهتمُّوا بها وراكمُوا العلُوم والمعارِف، ثمَّ انطلقُوا في سِباق حَضاري انتهَى بتفوُّقهم وسِيادتهم، وهوَ ما يُشير إلى فاعليَّة الكتابَة وتأثيرِها في الصُّعود والهبُوط بالنِّسبة للأُمم والمجتمعَات والكُتل والفِئات.

الكتابةُ عبرَ التَّاريخ

لم تكُن الكتابةُ مُنعزِلة عن الحيَاة، بل هيَ جزءٌ أصِيل منها، يستفيدُ الأفرادُ من ممارستِها، ويستطِيعون عبرَها إنجَاز معاملَاتهم الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والدينيَّة، التي تختلِف ما بَين استِعمَال الأحرُف والنُّقوش والصُّور، بحسَب تطوُّر الأُمم وارتقائِها، فالفراعِنَة استفادُوا من معارِفهم وطوَّروها رُغم اعتِمَادهم كتابَة هِيروغلِيفيَّة قائِمة على الرُّسومات والصُّور، وهوَ ذاتُ ما فعلَه الصينيُّون حِين اعتمدُوا على الصُّور في رَسم كَلماتهم، وهَاتان المُمارسَتان تَختلِفان عن البابليِّين في العِراق الذينَ اعتمدُوا نوعاً من الكتابَة غير المطوَّرة؛ حَيث لا فواصِل تبيِّن الفَرق بَين الكَلمات، وهوَ ما استعملَه العرَب في بِداياتهم معَ الخطِّ المسمارِي الذي جَاء أشبَه بالرُّموز والإشَارات.

عمليَّة تطويرِ الكتابةِ استغرقَت فترةً زمنيَّة طوِيلَة، تخلَّلتها العديدُ من الصُّعوبات والتغيُّرات، ومن الممكِن خِلَالها أن تمُوت لُغات، أو تنتقِل من كَونها مكتُوبة بطرِيقَة معيَّنة إلى أُخرى، تبعاً للاستِعمَال اليَومِي والتغيُّر الاجتِمَاعي، حَيث للمُجتَمع دورٌ هامٌّ في توجِيهها والمحافظَة عليها، فالمصريَّة الهيروغليفيَّة لم يَبق مِنها شيءٌ بَعد اندِثَار سُلطان الفراعِنة؛ إذ ظلَّت أسرارُها بيَد الكهنَة الذينَ التزمُوا بها في مَعابِدهم وعلَّموها لأتباعِهم، فلمَّا مَضوا وارتحلُوا أخذُوها معَهم، أمَّا الصينيُّون فحافظُوا على لُغتِهم المعتمِدة على الصُّورة، معَ إضَافات وتحسِينَات أدخلُوها نتيجَة تَفاعُلهم معَ مُحيطِهم، وحاجتِهم للتَّواصُل الفعَّال فِيما بينَهم، وبخصُوص الكتابَة البابليَّة والأكَديَّة والكَنعانيَّة والثمُوديَّة فلم يَبق مِنها شيءٌ بَعد زَوال الأُمم المُتحدِّثة بها، وبقِيت كَلُغة تاريخيَّة يمكنُ قِراءَتها واستِخرَاج معلُومات من نصُوصها كَحال بقيَّة اللغَات الميِّتة، وبالنِّسبة للعربيِّة والخطِّ المسمارِي فَقد توقَّف عن النُّمو بشكلِه البِدائي السَّائد آنذَاك، قَبل أن يتمَّ استبدالُه بمجمُوعة من الخطُوط المتفرِّعة عنه.

تطوُّر الكتابةِ وانتقالُها من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ يتطلَّب حدثاً ضخماً مؤثراً، يحافظُ على أبرزِ سِماتها، ويعمَل على ترمِيم عيُوبها، وإكمَال النَّاقص فيها، وهوَ ما حصَل معَ العربيَّة التي اعتمدَت الكتابَة الخاليَة من النُّقط والتَّشكيل والهَمز مُنذ البِداية، فالعرَبي يستطِيع قِراءَة لُغته بِناء على طرِيقَة كتابتِها، لذا لم يجِد مُشكِلة في نوعيَّة الخطِّ وكيفيَّة الكتابَة، إلا أنَّ الأَمر تغيَّر معَ دخُول أعدَاد كَبِيرة من الشُّعوب غَير النَّاطقة بالعربيَّة في الإسلَام، إذ وجدُوا أنفُسَهم أمَام تعاليمِها وشرائِعها وكتَابها المقدَّس، فإذا أرادُوا التعبُّد بها وجَب عليهم قراءَتها بلُغتها، وهُنا انبثقَت فكرَة التَّعديلات والتَّحسينات في الخطُوط لتكُون أكثَر إحكاماً ودقَّة.

العصرُ العباسِي شهدَ اختلاطاً بينَ العربِ وغيرِهم؛ ما أبرزَ الحاجَة إلى إتقانِ الكتابةِ والقراءةِ باللغةِ العربيَّة؛ إمَّا لأجلِ التعبُّد بها أو مُمارستِها لكَونها لُغة الحضَارة السَّائدة، هُنا اندفعُوا إلى تعلُّمها والاهتِمَام بها ودراسَة أدقِّ تفاصِيلها، لينتهِي المطَاف بظهُور فِئَات من غَير العرَب ممَّن أتقنُوها وكَتبُوا بها وعنها، مِثل سِيبَويهِ رئِيس مَدرسة البَصرة وكَبير نُحاتها ومؤلِّف كتَاب ”الكتَاب“، الذي يُعتبر دليلاً على مكَانة العربيَّة، وأحَد الشَّواهد التاريخيَّة على التغيُّرات الكُبرى التي لحقَت بالخطُوط، ويبقَى الشَّاهد الأكبَر هُو القُرآن الكَريم، حَيث النَّاس ظلُّوا ينسخُونه جيلاً بَعد جِيل، وفي كلِّ جيلٍ تَظهر سِمات جدِيدَة، من خِلَالها يُمكن قِياس التغيُّرات التي تحدُث بِناء على مُقارنتِه بما سبَق.

لكلِّ شيءٍ نهايَة، ولا بدَّ للتطوُّر كذلكَ من نقطةٍ يقفُ عِندَها، خصُوصاً حِينما يتعلَّق الأمرُ بفنِّ الخَط، الذي يستثمِر في الشَّكل، حَيث انتهَى به المطَاف إلى تَثبيت جَميع حُروفه وكَلماته بشكلِها الحَالي، بما يتخلَّلُها من علَامات ترقِيم ونُقط وهَمز ومَد، إذ لم يعُد هُنالك من حَاجة للزِّيادة عليها؛ لأنَّها ستؤدِّي إلى إربَاك القارِئ، وبهذَا ستغدُو عيباً من العيُوب، لا أداةً مُساعِدة في إِدراك المقصُود؛ لذَا حِينما اكتملَت جَميع التَّطوِيرات والتَّحسِينات تحوَّلت الكتابَة إلى مِهنة تُمارس في الحواضِر الكُبرى، وعلى رأسِها بغدَاد مقرُّ الخِلافة والعِلم والمَال، وهيَ الأمُور الثَّلاثة التي تحكَّمت في المكتُوب ووجَّهته.

علاقاتٌ مُتشابِكة

تمتازُ السُّلطة بالهيمنةِ على المجتمعِ ومراقبةِ ”الرَّأي“ الذي يمكنُ أنْ يتكوَّن بينَ أفرادِه، فهوَ يمثِّل بالنِّسبة لها أولويَّة لتعلُّقه بالاستِقرار والهدُوء، ولذَا أقرَّت طرِيقة يَنبغي على الكتَّاب الالتِزَام بها، إذ لَيس مسمُوحاً لهم الكتابَة عن كلِّ شَيء أو تَناول أيِّ موضُوع، وهُنا ظَهرت لحظةُ الرَّقابة الأُولى على المكتُوب وتوجِيهه، فلم يكتفِ الخلِيفَة أو مَن يمتلِك السُّلطة والنُّفوذ بمَنع الخَوض في مسَائل معيَّنة والسَّماح بأُخرى، بل اتَّجه أيضاً إلى جَمع ”المؤثِّرين“ من العُلماء والأُدباء والشُّعراء، مخصِّصاً لهم ليَالي يتسَامر معَهم ويستكشِف من خِلالهم أحوَال النَّاس، معتبراً إيَّاهم صِلة الوَصل بينَه وبَين المجتمَع، فعن طريقِهم تصِل أخبَار النَّاس إلى الخلِيفَة كَما تصِل أخبَار الخلِيفَة إلى النَّاس، أو ما يرغَب في وصُوله إليهم، وبِناء على هذِه العَلاقة التبادليَّة بَين الطَّرفين نشأَت الرَّوابط بَين الكتابَة والسُّلطة.

احتياجُ الخلِيفَة إلى المستشَارِين والنُّدماء من طبقاتِ الناسِ العُليا يماثلُ احتياجَه إلى العلماءِ والأدباءِ والشُّعراء، فالمستَشارُون من التُّجار والصُّناع والعسكَر يخبرُونه بكيفيَّة إِدارة الدَّولة وشُؤون النَّاس، أمَّا العُلماء والأُدباء والشُّعراء فيمدُّونه بالجدِيد من المخترَعَات التي يحتَاج إليها لإِدارة الشُّؤون العامَّة، كَما يعملُون على رَسم صُورته وتقدِيمها للنَّاس كَأفضل ما يكُون، وقَد ظلَّ الفَرِيقان في تنافُس محمُوم، فتنوَّعت مناصِبهم ما بَين مُستشار ووَزير وكَاتب ومُؤتمن، إلى أنْ بَات لكلِّ واحدٍ جمهورٌ يُسانِده وجَماعة تستفِيد من وجُوده، وبعضُهم بلَغ نفُوذه من القُّوة ما أضحَى يهدِّد الخلِيفَة نفسَه.

صعودُ أحدِ الفريقينِ وهبُوطه مرهونٌ بأوضاعِ الدَّولة واستقرارِها، فكُلَّما كَانت مُستقرَّة وهادئِة اتَّجه الخلِيفَة إلى تقرِيب العُلماء والأُدباء والشُّعراء، أمَّا في حَالات الحرُوب والاضطِرَابات فيقُوم بتقرِيب العسكَر والتُّجار والصُّناع؛ لتموِيل الجَيش وتجهيزِه بما يحتَاج، والعَلاقة هُنا لا تتضمَّن إِبعاد الفَرِيق الآخر إِبعاداً نهائيًّا، إنَّما الانشِغَال عنه بسبَب المتغيِّرات الزمنيَّة والأحدَاث الظرفيَّة، ويبقَى الاثنَان متَّصلَين به، وكثيراً ما يجتمِعَان في مجلسِه فتختلِط الخُطط العسكريَّة بالأشعَار، وآراء الفُقهاء بالنظريَّات؛ لتُشكِّل جميعُها فُسَيفِسَاء الحُكم وطرِيقة إِدارة شُؤون الدَّولة والنَّاس، حَيث الجَميع خاضِع لعِنايته ورعايتِه، والاهتِمَام بهم يَأتي لتحقِيق التَّوازُن في العَلاقات والمحافَظة على الولاءَات، وهُو ما يَعني استِمرار العَطاء والبَذل وتدفُّق المَال والنُّفوذ.

لا يتوقَّف عطاءُ الخلِيفَة، فثمَّة مُخصَّصات لكلِّ فردٍ من الحاشيةِ يعيشُ منها وينفقُ على شُؤونه الخاصَّة والعامَّة، إضافَة إلى الرِّعاية التي يَنالها، والتَّسهيلات التي يحصَل عليها، فيَكفي أن يذكُر اسمَه وصِفته كَي يقِف النَّاس وتُفتح له الأبوَاب؛ رغبَة في عَقد صِلة معَ الخلِيفَة نفسِه لتحقِيق منفعةٍ أو دَرء مفسَدة، وهُو ما يُبرِز أهميَّة الطَّبقة الثَّانية في الحُكم، التي تتشكَّل وتَأتي بعدَه مُباشَرة، إذ هِي التي ترسِم صُورته وتكُون واجِهته، ومن خِلالها يستطِيع التَّأثير في المجتمَع وتمرِير ما يُصدِر من أحكَام وقَرارات، ولهذَا ستتَّسم عَلاقتها به بالامتِنَان والرَّغبة في مزِيد من العِناية والرِّعاية، حَيث ستعلُو قِيمتُها وتأتِيها الشُّهرة، وستمتلِك من النُّفوذ والهيمَنة بحسَب ما يُتاح لها وما يسمَح به الخلِيفَة.

يهتمُّ الخليفةُ ببناءِ صورتهِ في الأذهانِ ويستمرُّ في المحافظةِ عليها وزيادتِها طوالَ حُكمه، ومن الأشيَاء التي تُساهم في هذِه الزِّيادة الأشعَار التي تُلقى في مدِيحه، والكتابَات والمخترَعات التي تسجَّل في عهدِه، وهِي أُمور سيكُون لها تأثِير حاسِم على تارِيخه، حِينما يُقارن بغَيره ومَن سبقَه، ومِن هُنا يُمكن فَهم رغبتِه في امتِلَاك الجدِيد الذي ينتجُه الأُدباء والعُلماء، لكَونها تُشكِّل أسَاس العَلاقة بينَهما، فمِن ناحيتِه يُقدِّم المَال والنُّفوذ، ومِن ناحيتِهم يُقدِّمون الجدِيد وغَير المسبُوق، وتعدُّ علاقتهُما أكثَر علَاقة إشكاليَّة ظهرَت على مُستوى الثَّقافة العربيَّة، فقَد انتَابها الكَثير من الانقِسَام والتشظِّي ما بَين مؤيِّد ومُعارِض.

تغيُّرات كُبرى

دولةُ الخلافةِ هيَ دولةُ الرعايةِ الأبويَّة، وما نتجَ بعدَها من دولٍ سيكونُ مثلَها في اهتمامِه وعنايتِه وأبوَّته معَ العلماءِ والأدباءِ والشُّعراء، الذينِ اتَّجهوا للكتابَة والتَّدوين، مُخلِّفين وراءَهم إرثاً من المعارِف والخِبرات، استَفاد بها من أَتى بَعدهم في تطوِير الحيَاة وتسهيلِها، ولِشُعور المدوِّن بأبوَّة الدَّولة مارَس الامتِنَان والشُّكر تجاهَها، فجعَل كتاباتِه تتَّجه إلى صاحِبها بالإهدَاء واعتِبَاره الأصْل والأسَاس، ولولا توجِيهاته وإشاراتِه لما كَتب وأنجَز، وهذَا الفِعل مجلوبٌ من الماضِي، حِينما كَان الشُّعراء يتكسَّبون بشعرِهم وينتقلُون من حَاكم إلى آخر، والقصَص في زِيَاراتهم لقصُور الغسَاسِنة والمنَاذِرة ومَدح المشهُورين من العرَب من أصحَاب الثَّراء والمكَانة مُسجَّلة ومعرُوفة، ففِعل اليَوم امتِدَاد لفِعل الأمْس، وكَاتب اليَوم امتِدَاد لشَاعِر الأمْس، وتظلُّ الوظِيفَة نفسُها مُتمثِّلة في رَسم صُورة ذهنيَّة إيجابيَّة عن الممدُوح والمُهدَى إليه.

استمرَّت أُبوُّة الدَّولة ورعايتُها للمدوِّنين في أزمنةِ الصُّعود الحضَاري والثَّقافي، وباتَ لكلِّ كَاتب من يقصدُه ليُهدي إليه النُّسخة الأُولى من كتابِه، حَيث انتشرَت المكتبَات والخزائِن مُستقطِبة النُّساخ والورَّاقين؛ أصحَاب مِهنة صِناعة الورَق ونَسخ الكتَاب وتَوزيعه، فكلَّما زَاد عدَد الكُتُب التي تحمِل اسمَ الشَّخص ارتفعَت مكَانته وشُهرته، وهذا الفِعل أدَّى لتشجِيع الكتابَة وطَرح المسائِل الجدِيدَة، إذ من شُروط الكتابَة للأمِير والخلِيفَة أنْ لا تكُون مُكرَّرة أو مَسبُوقة، بل تَأتي بالجدِيد المثِير والغَرِيب العَجِيب، ومعَ الانفِتَاح المادِّي انتعشَت سُوق الكتابَة وازدَاد المدوِّنون، وغدَا في كلِّ مدِينَة من يمارِس مِهنة الكتابَة، ويهتمُّ بجَودة الخطِّ وتحسِينه وتنمِيقه وتذهِيبه ورَسم المُنَمنَمات والصُّور بداخِله، لتُصبح من أكثَر التِّجارات رَواجاً ورِبحاً.

لم تنقطِع العلاقةُ بينَ الدَّولة والمدوِّنين، بل اتَّخذت أشكَالاً أُخرى لا تقتصِر على العَطاء المباشِر، فثمَّة مُخصصَّات شهريَّة تُعطى للمدوِّنين نتيجَة التِحاقهم بدُور الكُتُب وخزائِن العِلم، التي أصبَح بإمكَانهم زيارتُها والاستِفَادة منها بالاطِّلاع والنَّسخ من مُحتوياتها، مُخصِّصة لهم في الأثنَاء سكَناً وعطَاء، ومُتكفِّلة برعايتِهم والاهتِمَام بشُؤونهم، إنَّما كلُّ ذلِك تغيَّر معَ الدُّخول في مرحلَة الجمُود الحضَاري والانغِلَاق الثَّقافي، والنَّظر إلى الذَّات باعتِبَارها الأفضَل والأرقَى، حَيث تمَّ تقدِيس الأشخَاص وإهمَال المعرِفة والإبدَاع، فتقدَّم العَالم وتجاوزَهم، إذ بمجرَّد رحِيل الرِّعاية الأبويَّة وانتِهَاء دَورِها؛ انهارَت الأرضيَّة اللازِمَة لإنتَاج الكتابَة القائِمة على التَّجدِيد والبَحث عن الغَرِيب والعَجِيب.

ما تمَّ فقدُهُ في المراحلِ المتأخِّرة عوَّضه العصرُ الحديثُ الذي شهدَ رجوعاً لممارسةِ الكتابَة، ليسَ على أسَاس الرِّعاية الأبويَّة والعِنَاية والاهتِمَام من قِبَل الخلِيفَة أو مَن ينُوب عنه، بل برغبَة ذاتيَّة دافعُها التَّأليف والنَّشر، حَيث تكفَّلت الشَّبكات الاجتماعيَّة وبرامِج التَّواصل بتقدِيم المساعدَة والعَون، حِين أتاحَت بِناء العَلاقات معَ الآخرِين، كَما ألغَت الحواجِز التواصليَّة التي يُمكن أنْ تمنَع أو تُعيق اللقاءَات الافتراضيَّة؛ ما يُعتبر نصراً عظيماً ومهمًّا، إذ ابتعدَت الكتابَة عن ارتِبَاطاتها الوظيفيَّة بمرَاكز الرِّعاية والعِناية، واتَّجهت إلى أنْ تتفرَّد بِذاتها وترسِم طريقَها ومُستقبَلها اعتِمَاداً على نفسِها وإمكَانيَّاتها، مُتجاوِزة ما يُعيق حركَتها ويَمنع حُرِّيتها؛ وهُو ما أدَّى لإنتَاج كتابَة مُختلِفة في الأدَاء والمُستَوى.

الأداءُ الكتَابي اختلفَ عن السَّابق، إذ الكتاباتُ المطوَّلة والمملُوءة بالبلاغةِ والتَّصوير والتَّزيين والتَّزويق والاهتِمَام البَالغ بالعِبارة، لم تعُد مطلُوبة في عَالم يتَّسم بالسُّرعة والاستِهلاك، فما يتمُّ إنتاجُه من كتَابات لا يبقَى لليَوم التَّالي، وما لا يبقَى لليَوم التَّالي لا حاجَة للعِناية به والتَّعب في تَزيينه وتَزويقه؛ لأنَّه سيغدُو جهداً فائضاً ومجهوداً ضائعاً لا يقدِّم إضَافة إلى متلقٍّ، يبحَث عن مستوىً قريبٍ وأسلُوب سَهل، حَيث المباشَرة تطغَى على المناوَرة، وما كَان سابقاً مطلوباً لأنَّه من الكتَابات العمِيقَة والفَلسفِيَّة غدَا مبعداً مهملاً لنَفس السَّبب؛ ما يُشير لحدُوث تغيُّرات كَبيرة وعمِيقَة شمِلَت الكَاتب والكتابَة على حدٍّ سَواء، قد تُنذر بقطيعَة معَ الماضِي والانفِصَال عنه.

خِتاماً

ما عادَت صناعةُ الرَّأي مقصُورة على النُّخب المثقَّفة، فالعصرُ الحديثُ أبرزَ نخباً مؤثِّرة غيرَ مثقَّفة، وهوَ أمرٌ ينحُو تجَاه ما يخالِف السَّائد السَّابق، إذ معَ فُقدان الكَاتب لرِعاية واهتِمام الخلِيفَة والأمِير ضَاقت سُبُل معيشتِه واحتَاج العمَل والكَد، لكنَّه في المقابِل حصَل على مكَاسب ومَزايا، من أبرزِها التُّخلص من قيُود البَلاغة والأسلُوب، ونَيل حرِّيته في مُعالجة وكتَابة الموضُوع، معَ بَقاء رِقابة رمزيَّة تُلامس السَّطح ولا تتوغَّل في العُمق، وهُو ما يضَع على عاتِقه مهمَّة جدِيدَة تتمثَّل في تحطِيم ومَحو الصُّورة الذهنيَّة التي عَمِل على تشكيلِها ورسمِها؛ من أَجل إبرَاز كتَاباته وجعلِها لا تتعلَّق بشيءٍ سِوى ذَاتها.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 4
1
مياسة الناصر
29 / 6 / 2025م - 7:46 م
الكتابة اليوم ما عادت تقاس بطولها ولا بلاغتها بل بسرعة تداولها وقابليتها للاستهلاك. توصيف واقعي جدا!
2
إيمان
[ الحلة ]: 29 / 6 / 2025م - 9:29 م
ودي أسأل الكاتب: هل يرى أن الكتابة اليوم منفصلة عن السلطة فعلا؟ لأن كثير من المحتوى الرقمي لا يزال يوجه بطرق غير مباشرة.
3
عبدالكريم رضي
29 / 6 / 2025م - 11:46 م
أعتقد استاذ محمد انك حملت “العصر العباسي” فوق طاقته في مسألة تأطير الكتابة ضمن سلطة الدولة. هناك نماذج من الكتابة الحرة وجدت حتى في ظل القمع.
4
زينب حسن
[ القديح ]: 30 / 6 / 2025م - 8:29 ص
كلامك استاذ محمد عن “تحول الكتابة إلى مهنة تمارس في الحواضر الكبرى” ذكرني بجيل الوراقين والنساخ. سبحان الله كأننا نعيش اليوم نسخة رقمية منهم على شبكات التواصل.