آخر تحديث: 31 / 7 / 2025م - 3:51 م

عاشوراء موسمٌ تتعاظم فيه البركات

ما أن يطلّ علينا موسم عاشوراء، حتى يتبدّل كلّ شيء في أعماقنا. كأنّ جاذبيةً مغناطيسيةً تشدّنا نحو حدثٍ استثنائي، وشخصيّةٍ استثنائية، وبرنامجٍ استثنائي. نجذب إليه طوعًا لا كرهًا، ونسير نحوه بقلوبٍ مفعمةٍ بالشوق، كلٌّ بقدر جهده، واجتهاده، وطاقته.

وما يلفت الانتباه في هذا الموسم المبارك، أن بركاته لا تنفد، بل تتعاظم عامًا بعد عام، كأنّ الواقعة للتوّ قد حدثت، وكأنّ دم الإمام الحسين ما زال غضًّا طريًّا لم يجفّ؛ وهو كذلك حقًّا.

هنا، نقف صاغرين أمام عظمة هذا الموسم، وأمام البركات المتدفقة منه. وسأسجّل في هذا المقال جانبًا من تلك البركات.

الثراء الوجداني والمعرفي

يزخر موسم عاشوراء، في مختلف بقاع العالم، بمئات بل آلاف المجالس الحسينية اليومية، التي تُعقد في البيوت والحسينيات والمساجد والساحات، حتى بات من الصعب إحصاؤها بدقة.

ولو أردنا أن نُقدّر عدد المجالس المنعقدة في يومٍ واحدٍ فقط من أيام هذا الموسم، لبلغت الأعداد آلافًا متدفّقة، تمثل طوفانًا معرفيًا وشعوريًا فريدًا.

هذه المجالس، بما تحمله من تنوّع بين الطرح الوجداني والتاريخي والإصلاحي، تشكّل رافدًا معرفيًا حقيقيًا لأتباع أهل البيت .

ولست مبالغًا إن قلت إن كثيرًا من ملامح الثقافة العامة في الشارع الشيعي، تُستمد من بركات هذه المجالس التي تُقام في موسم عاشوراء، بل وتستمر طيلة العام في كثير من المجتمعات.

ومن هنا، فإن المجالس الحسينية تمثّل فرصة معرفية ثمينة، وعلى كل فرد أن يتحرى منها ما يُغذي حاجته ويُكمّل نقصه المعرفي أو الوجداني.

ولعلّ من أعظم البركات في هذا الموسم، تنوّع الخطباء، وتعدد رؤاهم، واختلاف زوايا معالجتهم، مما يفتح أمام المستمعين آفاقًا متعددة للوعي والتأمل، ويُغنيهم بثراءٍ وجدانيٍّ ومعرفيٍّ لا يُقدّر بثمن.

عزاءٌ تنطقه القصائد، وتنبض به الصدور

العزاء الحسيني ليس طقسًا عابرًا، بل ملتقى نابض يضمّ كوكبة من الشباب والمعزّين، يجتمعون على فقد إمامٍ عظيمٍ هزّ فقده الكون كله، واقشعرّت له أظلّة العرش، إنه سيد الشهداء الإمام الحسين .

وهذا العزاء، كما نراه حيًّا في المواكب، يقوم على ثلاثة أركان أساسيّة، لا يكتمل دون أحدها:

1. الشاعر الحسيني.

يقوم الشاعر الحسيني بدورٍ محوريّ، إذ ينسج القصائد التي تنقل وجدان المعزّين إلى أجواء الملحمة الحسينية. ولا يقتصر دوره على سرد وقائع الطف، بل يُبرز المفاصل العميقة لنهضة الإمام، ويربطها بالواقع الديني والثقافي والاجتماعي. فالشاعر المبدع لا يكتب تأثّرًا بل يؤسّس مدرسة، تبقى حيّة في قلوب الأجيال. وكم من قصيدة غيّرت مسار فكرٍ، أو ألهبت قلبًا، أو أطلقت وعيًا جديدًا!

ومع ذلك، فإن الكلمة مسؤولية؛ فالقصيدة الحسينية قد تكون وسيلة للإحياء، كما قد تُصبح - إذا أُسيء استخدامها - أداةً لإثارة الفتن وتصفية الحسابات. لهذا، ينبغي أن يستحضر الشاعر دومًا الهدف الأسمى الذي نطق به الإمام الحسين عند خروجه إلى العراق: «إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي».

2. الرادود الحسيني.

حنجرة الرادود ليست مجرّد صوت، بل قناة حيّة تُبثّ منها حرارة العشق، وصدق القضية. وصدى أدائه يتجاوز الأذن ليبلغ القلوب. غير أن هذا الأمر مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بما ينسجه الشاعر، ولهذا يتحمّل الرادود مسؤولية كبيرة في اختيار القصائد التي يُلقيها في مناسبات أهل البيت «.

وحيث أن موسم عاشوراء محط أنظار العالم، يصبح صوت الرادود وسيلةً عالميةً لإيصال الرسالة، ويُصبح واجبه مضاعفًا، فعليه أن يُمحّص القصيدة، ويرفض كلّ نص لا يُعبّر عن روح الإمام الحسين ونهضته.

3. المعزّي الحسيني.

العزاء الحسيني لا يكتمل دون حضور المتلقّي الواعي، فالشاعر لا يُسمَع، والرادود لا يُستَقبل، إن لم يكن هناك قلوبٌ تخفق وصدورٌ تُلطم.

والمُعزّي الحسيني ليس متفرّجًا، بل هو جزءٌ حيّ من هذه الشعائر؛ ولذا عليه أن يختار بعين البصيرة المجالس التي يحضرها، ويكون عنصرًا فاعلًا في توجيه دفة العزاء نحو أهدافه الحقيقية.

وحين يكون المُعزّي الحسيني رافضًا لاستخدام العزاء وسيلةً للفتنة أو التفرقة، فإنه بذلك يُجبر الشاعر والرادود على أن يكونا بمستوى هذا الوعي، فيصون الثلاثة معًا روح العزاء، ويُبقونه ميدانًا نقيًّا يُجسّد رسالة عاشوراء.

طاقاتٌ متدفقة، وموسمٌ يتّسع للجميع

من دون دعوةٍ خاصة، تزحف الجماهير الموالية لأهل البيت لإحياء موسم عاشوراء. وكلٌّ يُسهم بحسب جهده واجتهاده، في مشهدٍ يعكس حجم الولاء وعظمة المناسبة.

فمع حلول هذا الموسم، تتحفّز الطاقات تلقائيًا، وتنهض الهمم من تلقاء ذاتها، ليُعبّر كلّ فرد عن انتمائه بطريقته: فالكاتب يكتب، وينثر كلماتٍ تُضيء درب العاشقين وتوصل صوت الحسين إلى العالم، والشاعر ينضم أبياتًا تفيض عشقًا وولاءً، والرسّام يُبدع بريشته لوحاتٍ تجسّد روح القضية الحسينية، وآخرون يُخطّطون، ينظّمون، يطبخون، يخدمون. وهكذا، تتكامل الجهود وتتظافر الطاقات، ليكون إحياء عاشوراء بمستوى يليق بعظمة سيد الشهداء «عليه السام»، وبعمق الانتماء الذي يسكن وجدان محبّيه.

ومع ذلك، فإن هذا الموسم لا يضيق بأحد، بل يتّسع للجم؛ فجالس أبي عبد الله الحسين ليست حكرًا على أتباعه، بل مفتوحةٌ لكلّ من أراد أن يعرف، أن يسمع، أن يقترب من نور أهل البيت . إنه موسمٌ يتّسع للناس جميعًا، مهما اختلفت أديانهم أو مذاهبهم، لأنه يحمل في جوهره رسالةً إنسانية، عالمية، لا تعرف الحواجز ولا الانغلاق.

عطاء تعجز عنه الكلمات

في موسم عاشوراء، لا يقتصر الحضور على التفاعل أو الانفعال الوجداني، بل يمتد ليشمل العطاء العملي والدعم المادي، حيث يندفع الناس تلقائيًا للمساهمة، كلٌّ بحسب قدرته وطاقته، وكأنّ القلوب تتحرّك قبل الأيدي، استجابةً لنداء الولاء.

ولهذا ترى مائدة الإمام الحسين عامرةً في كلّ مكان، إلى الحدّ الذي يصعب معه أن يقول أحدٌ إنه لا يجد طعامًا في هذا الموسم. فالعطاء يفيض بلا حساب، والموائد تُنصب بلا شروط، والكرم الحسينيّ يطغى على المشهد.

وضمن هذه الصورة المشرقة للعطاء اللامحدود، نحتاج لوقفة تأمل: فمن الواجب أن يسعى القائمون على موائد الإمام الحسين إلى تجسيد القيم التي من أجلها نهض سيّد الشهداء، وأن يرسموا صورةً إيمانيةً تعكس تلك المبادئ العليا.

فحين نقرأ ونسمع أن الإمام الحسين قد قُتل عطشانًا جائعًا، يصبح من غير اللائق أن نرى طعامًا يُهدَر، أو نعمةً تُرْمى. فالهدر لا يُعبّر عن الولاء، بل قد يُشوّه رسالة عاشوراء أمام العالم، ويُضعف من أثرها الرساليّ في النفوس.

حين تُغتسل النفوس بنداء ”يا حسين“

وأخيراً.. فإنّ موسم عاشوراء هو فرصةٌ ذهبية، لا لتأدية طقس، بل لتطهير القلب، وغسل أدران النفس، ونزع الأغلال عن الصدور.

هو موسم العودة إلى الصفاء؛ بأن نعيش مع الإمام الحسين بقلوبٍ سليمة، ونفوسٍ مطمئنة، وصدورٍ نقيّة، مستحضرين آلامه ومبادئه، وعاقدين العزم على أن لا نخرج من هذا الموسم إلا وقد تطهّرنا.

وكأننا نولد من جديد، لنستأنف المسير، ونستبقي أثر الإمام الحسين وقودًا يُضيء دربنا، حتى نبلغ الموسم القادم، ونحن أوفى، وأنقى، وأقرب.