آخر تحديث: 29 / 6 / 2025م - 5:20 ص

نحو مجتمع معافى ووطن مستدام: الاقتصاد الصحي والمحاسبة البيئية كأدوات لتحول حضاري شامل

عاطف بن علي الأسود *

في ظل التغيرات العالمية المتسارعة، وما تشهده البشرية من أزمات صحية متكررة، وتحديات بيئية متصاعدة، بات من الضروري أن تتبنى المجتمعات مفاهيم جديدة في إدارة شؤونها الصحية والبيئية. الاقتصاد الصحي ومحاسبة البيئة لم يعودا مجرد مفاهيم أكاديمية أو مصطلحات تخصصية، بل أصبحا ركيزتين أساسيتين لأي نهج تنموي يسعى إلى التوازن بين صحة الإنسان واستدامة الموارد. هذه الرؤية ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة استراتيجية لبناء مستقبل آمن وصحي للأجيال القادمة.

لقد استند هذا الطرح إلى دراسة تحليلية معمقة امتدت لعدة سنوات، وانطلقت من تجارب واقعية لمدن ودول متقدمة، أثبتت أن التحول البيئي المتكامل هو السبيل الأمثل لضمان جودة الحياة وتقليل الأعباء الصحية. من أبرز هذه التجارب، مدينة شفيلد البريطانية، التي كانت لعقود طويلة رمزًا للصناعة الثقيلة، لا سيما في مجال الحديد والصلب. هذه المدينة التي عايشتها عن قرب خلال أكثر من عشر سنوات، شهدت تحولًا جذريًا في بنيتها الاقتصادية والبيئية بعد أن قررت التخلي عن الصناعات الملوثة وتوجيه مواردها نحو البحث العلمي والتعليم الجامعي. لم يكن هذا التحول سهلًا، لكنه مثّل نقلة نوعية غيّرت وجه المدينة وجعلت منها مركزًا عالميًا يحتضن آلاف الطلاب من مختلف الدول، في بيئة نظيفة، صحية، وآمنة.

لم تكن شفيلد وحدها، ففي السويد مثلًا، أصبح تحليل الأثر البيئي للمستشفيات إلزاميًا ضمن منظومة الرعاية الصحية، مع تطبيق صارم لمعايير تدوير النفايات الطبية وتقليل الانبعاثات. وفي كندا، تسير النظم الصحية على نهج ”الرعاية الخضراء“، الذي يدمج جودة البيئة في كفاءة تقديم الخدمات الصحية. أما اليابان، فقد أبدعت في تحليل الأثر البيئي للتقنيات الطبية وحتى للأدوية، إدراكًا منها للعلاقة المباشرة بين الصحة والبيئة.

في المملكة العربية السعودية، تتجلى ملامح هذا التحول الواعي من خلال رؤية 2030 التي وضعت البيئة والصحة على رأس أولوياتها الوطنية. لم يعد التركيز مقتصرًا على بناء المستشفيات أو تطوير البنية التحتية الصحية فحسب، بل شمل أيضًا إدخال مفاهيم جديدة مثل كفاءة الموارد، إدارة المخلفات الطبية، والرقابة البيئية في المنشآت الصحية. تتعاون الجهات الحكومية ذات العلاقة على تطبيق معايير الاستدامة البيئية، ليس فقط بهدف الحماية، بل من منطلق أن الصحة العامة لا يمكن أن تنفصل عن نظافة الهواء والمياه وسلامة البيئة المحيطة.

الاقتصاد الصحي هنا يؤدي دورًا حاسمًا، فهو لا يعنى فقط بحساب تكلفة العلاج أو بناء المستشفيات، بل يتناول التحليل الشامل للنظام الصحي من حيث الكفاءة، والوقاية، والعدالة في التوزيع، والأثر البيئي. فكل ريال يُستثمر في الوقاية البيئية، يُترجم إلى انخفاض في تكاليف العلاج، وتحسن في جودة الحياة، وارتفاع في معدلات الإنتاج المجتمعي. كذلك، تتيح محاسبة البيئة إمكانية قياس الأثر البيئي الحقيقي للأنشطة الصحية، سواء داخل المستشفيات أو في السياسات العامة، مما يساعد صناع القرار على تبني إجراءات تصحيحية مبنية على بيانات دقيقة ومؤشرات قابلة للقياس.

إن إعداد كوادر وطنية متمكنة في هذه المجالات المتداخلة لم يعد خيارًا، بل ضرورة. ويُعد إطلاق برامج تدريبية وأكاديمية في محاسبة البيئة والاقتصاد الصحي خطوة استراتيجية مهمة، تؤسس لوعي مؤسسي ومجتمعي يسهم في توجيه الاستثمارات نحو مشاريع تحقق النمو الاقتصادي وتحافظ في الوقت نفسه على البيئة والصحة.

المملكة اليوم تقود هذا التحول بإرادة قوية ودعم متواصل من قيادتها الرشيدة، بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - اللذين منحا الاستدامة البيئية والاقتصاد المعرفي أولوية في كافة المبادرات الوطنية. ويأتي هذا في انسجام تام مع الجهود المبذولة لتمكين الشباب السعودي، وتشجيعه على المشاركة الفاعلة في تطوير المجتمع من خلال نشر الوعي البيئي والصحي، ودعم البحث العلمي، وتبني ثقافة الوقاية، وتحمل المسؤولية الوطنية.

لقد أصبح واضحًا أن الطريق إلى مجتمع معافى ووطن مستدام لا يمر فقط عبر المستشفيات أو الموازنات الصحية، بل عبر وعي جماعي يربط بين سلوك الأفراد، وقرارات السياسات، واستدامة الموارد. والمملكة اليوم، بما حققته من إنجازات، وما تزرعه من وعي، تقدم نموذجًا يُحتذى به في العالم العربي، بل في العالم بأسره.

دراسات عليا اقتصاد صحي