آخر تحديث: 3 / 8 / 2025م - 11:28 م

عسل المانجروف... حين يصبح النحال حارسًا للبيئة

عميد أبو المكارم *

من على سواحل خليج تاروت، حيث تتعانق مياهه مع جذور أشجار المانجروف، يتردد طنين نحل العسل بين الأزهار، لتحمل رحيقًا وتزرع الحياة. هناك، حيث يلتقي ماء الخليج بالنبات، يكتب النحالون السعوديون قصة جديدة من قصص الانتماء للأرض، ضمن مبادرة وطنية تُعرف بـ ”مبادرة إنتاج عسل المانجروف الخامسة“، التي أطلقتها وزارة البيئة والمياه والزراعة بالتعاون مع المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر.

ليس العسل وحده ما يُنتج هناك، بل نموذج متكامل من العمل البيئي والاقتصادي، عنوانه الكبير: الاستدامة. فهؤلاء النحالون الذين ينتشرون بخلاياهم في مواقع مختارة من سواحل القطيف ورأس تنورة وتاروت الجبيل لم يعودوا مجرد جامعين للرحيق، بل تحولوا إلى حراس للبيئة، يراقبون التوازن الدقيق بين النحلة والشجرة، بين الإنتاج والحماية، بين الإنسان والطبيعة.

إنّ غابات المانجروف التي طالما وقفت كخط دفاع أخضر في وجه تآكل السواحل وارتفاع درجات الحرارة، باتت اليوم شريكة في قصة إنتاج نوع فريد من العسل، يُجمع في موسم قصير، لكنه يحمل في كل قطرة منه حكاية عمرها آلاف السنين من التكافل الطبيعي. فالنحل، لم يكن يومًا مخلوقًا عاديًا، بل لطالما لعب دورًا أساسيًا في استمرار الحياة النباتية. واليوم، يواصل رسالته في المانجروف، ناقلًا رحيق أزهاره، ومشجعًا على ازدهار الأشجار، مبرهنًا على أن أصغر الكائنات يمكن أن تؤدي أعظم الأدوار.

ولعلّ من أبرز العوامل التي دفعت هذه المبادرة نحو النجاح هو الدور المحوري والداعم الذي يقدمه صاحب السمو الملكي أمير المنطقة الشرقية، من خلال توجيهاته السديدة لكافة الجهات والقطاعات المعنية لتقديم التسهيلات والدعم للنحالين المشاركين، وتمكينهم من أداء دورهم البيئي والإنتاجي في أفضل الظروف. فقد شكّل دعم سموه رافعة معنوية ومؤسسية للمبادرة، وأسهم بشكل مباشر في تذليل العقبات وتعزيز روح الشراكة بين مختلف القطاعات لخدمة أهداف المبادرة الوطنية.

فهذه المبادرة تجربة ليست معزولة، بل امتداد لمشروع وطني يسعى إلى إعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان ومحيطه، بطرق ذكية ومستدامة. فبدل أن تُستنزف البيئات الساحلية تحت ضغط التوسع والعمران، ها هي تتحول إلى مراعي نحلية طبيعية، ومختبرات حيّة لتجربة الاقتصاد البيئي الحقيقي، حيث يجتمع الإنتاج مع حماية الطبيعة.

ولا يكتفي النحالون بأداء دورهم البيئي والإنتاجي فحسب، بل باتوا يزرعون هذه الحرفة في وجدان أبنائهم، كما يزرع النحل رحيقه في قلب الزهر. فهم يدركون أن ما بين أيديهم ليس مجرد عمل، بل إرثٌ بيئي وثقافي يجب أن يستمر. وفي مشاهد يومية مألوفة، يصطحب النحالون أبناءهم إلى المناحل لتتحول المناحل إلى مدارس طبيعية، يتلقى فيها الجيل الجديد دروسًا في حب الأرض، والانضباط، والتوازن بين الإنسان والبيئة، ليكونوا امتدادًا حيًّا لرسالة آبائهم، وحماةً للمستقبل مثلهم.

النحل، الذي ساعد الإنسان على مر العصور في الزراعة، والغذاء، والدواء، لا يزال يرافقه اليوم في معركته الأهم: معركة الحفاظ على الكوكب. والعسل المستخرج من المانجروف ليس مجرد طعام، بل رسالة: أننا قادرون على العيش بتناغم مع الطبيعة، لا على حسابها.

وهكذا، تستمر أزيزات النحل على سواحل الخليج، كأنها نشيد بيئي وطني، يصدح بأن التنمية لا تعني التخلي عن البيئة، بل تبدأ من احترامها. وبين النحلة والنحال... وبين القرم والرحيق... تنمو تجربة سعودية تستحق أن تُروى.








التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
أ/ كمال بن علي آل محسن
[ القطيف ]: 27 / 6 / 2025م - 9:41 م
موضوع مهم وطرح رائع وثري …
كل الشكر للكاتب .