المانجروف في القطيف والشرقية: ثروة بيئية وصحية واستثمار مستدام في محاسبة البيئة
تُعدّ أشجار المانجروف التي تنتشر على سواحل القطيف والمنطقة الشرقية من الكنوز البيئية الفريدة التي لا تزال في حاجة إلى اهتمام أوسع واستثمار أذكى. هذه الأشجار الساحلية ليست مجرد نباتات تنمو على الشواطئ، بل منظومة بيئية متكاملة تسهم بشكل مباشر في تحسين جودة الهواء والماء، وتلعب دورًا فعّالًا في مواجهة التغير المناخي عبر امتصاص كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون تفوق ما تقوم به الغابات البرية التقليدية.
إضافة إلى دورها البيئي، توفر المانجروف بيئة خصبة لتكاثر الكائنات البحرية مثل الأسماك والروبيان، مما يعزز من الثروة السمكية ويخدم قطاع الصيد المحلي، الذي يمثل مصدر دخل مهم للعديد من الأسر في المنطقة. كما يمكن استثمار منتجاتها الطبيعية، مثل العسل النادر المستخلص من أزهارها، في مشاريع اقتصادية صغيرة تندرج ضمن مفاهيم الاقتصاد الأخضر والصحي.
ولا تقتصر أهمية المانجروف على الجوانب البيئية والاقتصادية فحسب، بل تمتد إلى المجال السياحي كذلك، حيث يمكن تطويرها إلى وجهات للسياحة البيئية المستدامة من خلال إنشاء ممرات خشبية داخل الغابات، ومناطق مراقبة للطيور، ومراكز تعليمية وترفيهية تهدف إلى تعزيز الوعي البيئي لدى الزوار من مختلف الأعمار. ما تمتلكه سواحل القطيف والمنطقة الشرقية من طبيعة ساحلية غنية يُعدّ فرصة نادرة لتحويل هذه الغابات إلى معالم سياحية وثقافية مستدامة.
وتثبت تجارب دولية عديدة جدوى هذا التوجه، بناءً على قراءة وبحث معمق في تجارب الهند التي حولت غابات المانجروف في منطقة ”سندربان“ إلى محمية طبيعية يقصدها السياح والباحثون على حد سواء، وإندونيسيا التي دمجت المجتمعات المحلية في عمليات استزراع المانجروف والاستفادة من منتجاتها البيئية، مما خلق مصادر دخل مستدامة وأتاح فرصًا للعمل والتعليم البيئي، وكينيا التي اتخذت خطوة مبتكرة حين وظفت غابات المانجروف ضمن برامج تعويض الكربون، لتوفير دخل للسكان مقابل زراعة الأشجار، ما جعل من البيئة مصدرًا مباشرًا لتحسين المعيشة.
إن ما نمتلكه اليوم في القطيف والمنطقة الشرقية من هذه الثروة الطبيعية لا يقل قيمة عمّا استفادت منه تلك الدول، بل ربما يفوقها من حيث المقومات الجغرافية والدعم الوطني لمشاريع الاستدامة، خصوصًا في ظل رؤية المملكة 2030 التي وضعت البيئة والاستثمار المستدام في صميم أولوياتها. ولذا، فإن على الجهات المختصة في البيئة والسياحة والاقتصاد أن توحّد جهودها من أجل حماية هذه الأشجار، وتوسيع استزراعها، وتطويرها كمساحات استثمارية متكاملة تخدم الإنسان والبيئة والاقتصاد في آنٍ واحد.
إن أشجار المانجروف ليست مجرد غطاء نباتي ساحلي، بل هي شاهد حي على أن الطبيعة حين تُصان وتُستثمر بعقل، تُصبح شريكًا في التنمية، لا عبئًا عليها. وما تمتلكه القطيف والمنطقة الشرقية من هذا المورد الطبيعي، هو مسؤولية وفرصة في آنٍ معًا؛ مسؤولية تحمينا من تبعات الإهمال البيئي، وفرصة لبناء نموذج سعودي يحتذى به في الاستثمار البيئي والسياحي المستدام. إن الطريق إلى بيئة صحية واقتصاد أخضر يبدأ من جذور هذه الأشجار الصامتة… التي ما إن نمنحها العناية، حتى تمنحنا الحياة.