آخر تحديث: 28 / 6 / 2025م - 11:04 م

محاسبة البيئة… استثمار في صحة الإنسان واقتصاد المستقبل

عاطف بن علي الأسود *

في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم نحو التنمية الصناعية والاقتصادية، برزت تحديات بيئية وصحية جديدة تهدد استدامة الموارد وسلامة المجتمعات. وتأتي محاسبة البيئة كمنهجية علمية وإدارية لمواجهة هذه التحديات، حيث تسعى إلى تقييم الأثر البيئي للأنشطة الاقتصادية، وتحقيق توازن بين النمو الصناعي وحماية صحة الإنسان. وتزداد أهمية هذا التوجه في المدن الصناعية الكبرى، مثل مدينة الجبيل الصناعية في المملكة العربية السعودية، التي أصبحت نموذجًا متقدّمًا يجمع بين التقدم الصناعي والاستدامة البيئية ضمن إطار رؤية السعودية 2030.

محاسبة البيئة هي عملية شاملة لتحديد وقياس التكاليف البيئية المترتبة على الأنشطة الاقتصادية، ودمج هذه البيانات في اتخاذ القرار على مستوى السياسات والمؤسسات. وتهدف هذه العملية إلى تقليل الآثار السلبية على البيئة، وتحفيز التحول نحو ممارسات أكثر استدامة، بما ينعكس بشكل مباشر على جودة الهواء والماء، وسلامة الغذاء، وصحة الأفراد. في ظل غياب محاسبة بيئية دقيقة، قد تستمر الصناعات في إطلاق ملوثات خطيرة تؤثر على صحة المجتمع، مسببة أمراضًا تنفسية، وأورامًا سرطانية، وأزمات قلبية، ما يؤدي إلى تدهور نوعية الحياة وارتفاع التكاليف العلاجية على الدولة والمواطن.

في هذا السياق، تبرز مدينة الجبيل الصناعية كنموذج فريد في التوفيق بين الصناعة والبيئة. فقد نجحت المدينة، التي تُعد من أكبر المدن الصناعية في الشرق الأوسط، في بناء منظومة بيئية متكاملة تُعنى بالرقابة على الانبعاثات، ومعالجة النفايات، وتوسيع المساحات الخضراء. وتُدار المدينة من قبل الهيئة الملكية للجبيل وينبع، التي تطبق نظامًا متقدّمًا لمراقبة جودة الهواء والمياه من خلال مراكز استشعار متطورة، وتُلزم المصانع بتقنيات بيئية حديثة للحد من الغازات السامة والتلوث الصناعي.

وعلى الرغم من طابعها الصناعي، استطاعت الجبيل أن تتميز بكثافة التشجير والحدائق العامة، حيث تم زراعة ملايين الأشجار باستخدام أنظمة ري متقدمة تضمن الاستدامة البيئية وتقلل من استهلاك المياه. وقد ساهمت هذه الجهود في تحسين المناخ المحلي وخفض درجات الحرارة، فضلًا عن رفع جودة الهواء وتقليل نسب الإصابة بالأمراض المرتبطة بالتلوث.

ما يلفت الانتباه في تجربة الجبيل هو أثرها المباشر على الصحة العامة، إذ انعكس تحسين البيئة على انخفاض معدلات الأمراض المزمنة المرتبطة بالتلوث، وهو ما ساعد على تخفيف الضغط على الخدمات الصحية ورفع مؤشرات جودة الحياة. وبذلك تُظهر الجبيل كيف يمكن للبيئة النظيفة أن تكون درعًا صحيًا فعّالًا يحمي المجتمع.

ولا تقف فوائد محاسبة البيئة عند الصحة فقط، بل تمتد إلى الجانب الاقتصادي. إذ إن تحسين البيئة يخفّض من التكاليف الصحية على الدولة، ويقلل من النفقات المخصصة لعلاج الأمراض المزمنة الناتجة عن التلوث، مثل أمراض الجهاز التنفسي والقلب والسرطان. كما يُسهم ذلك في تقليل عدد الإجازات المرضية، ورفع مستوى الإنتاجية، وتوجيه الموارد العامة نحو التعليم والبحث والابتكار بدلًا من الإنفاق العلاجي.

تشير تقارير دولية إلى أن كل دولار يُستثمر في الوقاية البيئية يُمكن أن يوفّر ما بين 3 إلى 7 دولارات من النفقات الصحية مستقبلاً، وهو ما يُثبت أن الاستثمار في البيئة هو استثمار طويل الأجل في الإنسان والاقتصاد معًا.

ولا تنفصل هذه الجهود عن رؤية السعودية 2030، التي وضعت حماية البيئة ضمن أولوياتها، عبر مبادرات كبرى مثل “السعودية الخضراء” و”الشرق الأوسط الأخضر”، إلى جانب تطوير المدن الصناعية الذكية والمستدامة. وتجربة الجبيل تشكّل حجر الأساس في هذه الرؤية الطموحة، حيث تمثل مثالًا حيًّا يمكن تكراره في ينبع ورأس الخير وجازان وغيرها من المدن الصناعية الواعدة.

وأمام التحديات المناخية والصحية التي تواجهها دول العالم، تقدم المملكة اليوم من خلال مدينة الجبيل نموذجًا متقدمًا يُثبت أن الصناعة لا تعني بالضرورة التلوث، وأن التنمية الحقيقية هي التي تضع صحة الإنسان وجودة حياته في قلب التخطيط الاقتصادي.
 

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 3
1
فاطمة الزاكي
23 / 6 / 2025م - 2:55 م
صحيح لازم أن نكون أكثر حذر في التعامل مع الصناعات الثقيلة. البيئة ليست لعبة ويجب أن نكون أكثر جدية في محاسبة الشركات.
2
علي السالم
[ القطيف ]: 23 / 6 / 2025م - 4:46 م
الجبيل نموذج يحتذى به في التوازن بين الصناعة والبيئة. نتمنى أن تتبنى باقي المدن هذا النهج للحفاظ على صحتنا وصحة الأجيال القادمة.
3
محمد السنان
[ الأوجام ]: 23 / 6 / 2025م - 8:02 م
مقال جميل لكنني أشوف أن التركيز على الصحة فقط ليس كافي. لازم نأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية.. البيئة جزء من كل شيء.
دراسات عليا اقتصاد صحي