الإنسان والآلة: من يُمسك بزمام المستقبل
أمام الآلة جلس متأمّلًا، يختبر قدرتها على إنجاز المهام؛ فاندهش مما رأى، وطار لُبّه من هول ما وجد. لم يلبث طويلًا حتى نسي إنسانيته، وباتت الآلة تسيّره بدلًا من أن يُسيّرها؛ وحين استحكمت قوّتها، تلاشى دوره، وفقد وجوده وقيمته، وانطفأت شعلة إنسانيته.
فالإنسان، في بُعده الحيوي، لا يختلف كثيرًا عن الحيوان؛ إذ يشترك معه في الوظائف البيولوجية ذاتها؛ وهذا البُعد وحده هو ما تحاكيه الآلة. لكن الله، سبحانه وتعالى، خصّ الإنسان ببُعدٍ آخر، وهو البُعد الوجداني، المتجلّي في العقل، والنفس، والقلب الوجداني؛ وبهذا البُعد، صار الإنسان كائنًا فريدًا، لا تُدانيه أيٌّ من المخلوقات.
فهل يقف الإنسان أمام الآلة ببُعده البيولوجي وحده، فيكون وجوده هامشيًا؟ أم يستحضر إنسانيته الوجدانية، فيُمسك بزمام الآلة، ويقودها بدل أن تقوده؟
يقول الإمام علي : «يا كميل، ما من حركةٍ إلا وأنت محتاجٌ فيها إلى معرفة»، إنه توجيهٌ بليغ من سيد البلغاء، يرسّخ أن المعرفة يجب أن تكون أساس كلّ حركة، ومبدأ كلّ فعل.
واليوم، في مواجهة الآلة التي باتت تُنافس الإنسان في بُعده البيولوجي، وتتحدّى ذاكرته، وتحليلاته، واستنتاجاته، أصبح من الضروري أن يُدرك الإنسان خطورة الموقف، ما لم يكن مزوّدًا بالمعرفة الكافية عنها.
والمعرفة التي أعنيها هنا ليست مجرد معرفة الاستخدام؛ فكلّ من يمتلك جهازًا ذكيًا بات قادرًا على تشغيل الآلة ببساطة.
وإنما المقصود معرفة الآلية التي تعمل بها هذه الآلة، ولو على نحوٍ شمولي، لأن الجهل بذلك يُنذر بخطرٍ بالغ.
وأستحضر هنا قصةً حقيقيةً لسيّدةٍ أُصيبت بمرضٍ خطيرٍ كاد أن يُنهي حياتها، فَعجز الأطباء عن تشخيص حالتها، مما اضطرها للسفر إلى دولةٍ أوروبية، وهناك أيضًا أخفقت الجهود الطبية في التوصّل إلى تشخيص دقيق.
وأخيرًا، تم اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي، فاستطاعت الآلة أن تُشخّص المرض بدقّة، وتُحدّد العلاج المناسب، مما أنقذ حياتها من موتٍ محقّق.
وبعد نجاتها، قالت بعفوية: ”لقد عجز الأطباء عن معالجتي، وعالجتني الآلة. أنا ممتنّةٌ لها من أعماقي؛ فقد أنقذت حياتي.“
إن مثل هذه الكلمات وإن كانت تلقائية، إلا أنّها حين تُختزن في لاوعي الإنسان، قد تُعيد تشكيل رؤيته، وتؤثّر على معتقداته، وربما تزلزل إيمانه بالله تعالى، إن لم يكن مدركاً لمنطق هذه الآلة وحدود قدراتها.
لهذا، فإن المعرفة ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية في هذا العصر الرقمي، وهي الركيزة الأساسية التي يجب أن يرتكز عليها كلُّ من يُريد أن يواجه هذه الآلة، أو أن يُحسن التعامل معها دون أن يفقد ذاته.
وهناك زاوية أخرى من زوايا عدم المعرفة بآلية عمل الآلة، لا تقل خطورة عن الخضوع لها، وهي: رفض استخدامها بالكامل، بحجّة أنها تُقصي الدور البشري وتُهدّد وجوده، وهذا أيضًا خطأ معرفي.
نعم، قد يُلغى الدور البشري إذا ما تمّ تسليم زمام القيادة للآلة؛ أما حين تبقى الآلة ضمن نطاق الرؤية البشرية، وتعمل ضمن توجيه الإنسان وإشرافه، فإنها تُصبح أداة مُعينة، لا خصمًا منافسًا.
ولتقريب الصورة: تخيّل من يرفض ركوب السيارة لقطع مسافة بعيدة، بحجة أن الله وهبه قدمين يمشي بهما! في حين أن السيارة ستوصله في دقائق، بينما المشي قد يستغرق ساعاتٍ أو أيامًا.
هل رفض السيارة ناتج عن حكمة؟ أم عن فهم قاصرٍ لدورها؟
ومثال عملي آخر: إذا أردت تفريغ تسجيلٍ صوتي طويل يدويًا، قد يستغرق منك ساعاتٍ متعبة، ولكن باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، يمكنك إنجازه في دقائق، وبجودة عالية.
إن الفرق الجوهري هنا، هو: هل نستخدم الآلة بمعرفةٍ ووعي؟ أم نستخدمها أو نرفضها نتيجة خللٍ في المعرفة؟
يقول تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ ”الصافات، 24“، آيةٌ تضع الإنسان في قلب المواجهة أمام خالقه، ليُسأل غداً عمّا قدّم.
يعيش الإنسان في هذه الحياة بين قطبين: الحرية من جهة، والقيود من جهةٍ أخرى.
فهو وإن كان مخلوقًا حرًّا، إلا أن حريّته ليست مطلقة؛ بل محكومة بجملةٍ من الضوابط التي تُرشّد سلوكه، وتمنعه من الانفلات.
وهذه المعادلة تنطبق تمامًا على علاقة الإنسان بالآلة، إذ لا يحقّ له أن يُطلق العنان لاستخدامها كيفما يشاء، ولأي غرضٍ كان، دون وازعٍ من ضمير أو وعي؛ وإلا تحوّل الاستخدام إلى فوضى تقنية، تُفرغ العالم من ملامحه الإنسانية.
فمثلًا، الكاتب والمثقف، باستطاعته اليوم عبر أدوات الذكاء الاصطناعي أن يُنتج كتابًا كلّ يوم! وكلّ ما عليه هو أن يُغذّي الآلة بأفكاره، ثم يترك لها مهمة كتابة كتابٍ كامل بجميع فصوله ومحتوياته، وعدد الصفحات التي يريدها.
ولكن السؤال الجوهري هنا: هل يملك هذا الكاتب الجرأة ليقول إن هذا الكتاب من تأليفه حقًّا؟ وهل سيكون مستعدًّا للمساءلة غدًا بين يدي الله تعالى؟
وفي المقابل، يمكن للكاتب الواعي أن يستثمر ما تُقدّمه الآلة من أدواتٍ داعمة، تُعينه على أداء دوره الفكري والثقافي بكفاءةٍ أعلى، مع المحافظة الكاملة على روحه الإبداعية، وبصمته الفكرية الخاصة.
وليس الكاتب وحده، بل في كلّ مجالات الحياة باتت الآلة قادرةً على تقديم نتائج مذهلة، غير أن المسألة لا تتعلّق بالنتائج فقط، بل بالمسؤولية؛ وحين يُفرّط الإنسان بمسؤوليته، فإنه يُفرّط بجوهر إنسانيته أيضًا.
في مقابل هذه الآلة التي أذهلت العالم بقدرتها على الوصول إلى نتائج مذهلة —حتى أولئك الذين قاموا ببرمجتها وقفوا مدهوشين أمام ما أنتجته— برزت مخاوف حقيقية من تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى كابوسٍ يهدّد المجتمعات البشرية.
بل إن البعض بات يتساءل: هل سنستيقظ يومًا لنجد أن الذكاء الاصطناعي قد حلّ مكان البشر، ولم يعد لهم موضعٌ حقيقيٌّ على هذه الأرض؟
فهل هذا التصوّر واقعيّ؟ أم أنه مجرّد وهمٍ تخلقه المبالغات أو الجهل بطبيعة التقنية؟
عند التأمل، نجد أن هذا التصوّر يحمل وجهين:
وجه الحقيقة: أن الذكاء الاصطناعي لم يعُد خيارًا مستقبليًا، بل أصبح واقعًا حاضرًا في تفاصيل الحياة اليومية؛ ومن يُنكر ذلك، سيجد نفسه قريبًا خارج معادلة الحياة والإنتاج.
وجه الوهم: أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يستغني كليًّا عن الإنسان؛ وهذا الوجه يتناسى أن الآلة لا تعمل بذاتها، ولا تملك إرادةً مستقلة، بل هي تعمل ضمن منظومةٍ من التوجيهات التي يضعها الإنسان؛ فالآلة أداة، وليست قائدًا.
من هنا، يتوجّب على الإنسان أن يمتلك كفاءةً حقيقيةً ضمن مجالٍ ما، وأن يكون له هدفٌ واضح يسعى إليه، وأن يُحسن استخدام هذه الآلة لخدمته، لا أن يتحوّل هو إلى أداة تُدار من قِبل الآخرين أو بواسطة الآلة نفسها.
لأن الإنسان الذي يفتقد الهدف والتميّز والكفاءة، سيجد نفسه في مواجهة مرّة: فهو والآلة سواء، بل قد تكون الآلة أكثر منه فاعليةً وأداءً؛ وهنا يصبح هذا الإنسان عبئًا على الحياة، بلا دورٍ حقيقي ولا أثر يُذكر.
وختاماً.. الآلة ليست سوى أداةً، تُساعد على إنجاز المهام بجودة عاليةٍ وفي وقتٍ قياسي. لكنها ليست بديلًا عن الإنسان، الذي يمتلك غايةً حقيقيةً لوجوده، ويعيش فاعلًا في حياته، مدركًا لآلية عمل الآلة، ويتحمّل مسؤولية قراراته وأفعاله.
فالإنسان الذي يجمع بين المعرفة والمسؤولية والوعي المتفائل بالمستقبل، هو الإنسان القادر على أن يُمسك بزمام الآلة، لا أن تُمسك هي بزمامه؛ ومثل هذا الإنسان، سيكون أكثر ثقةً بذاته، وأكثر استفادةً من هذا التطور التكنولوجي في خدمة حياته ورسالته.