آخر تحديث: 14 / 6 / 2025م - 3:30 م

طوابير المناسبات.. أزمة إدارة أم سلوك

الدكتور جعفر أحمد قيصوم

في كل مناسبة اجتماعية، سواء كانت فرحًا يُبهج القلوب أو عزاءً يُوجِع الأرواح، يتكرّر مشهدٌ اعتدناه حتى صار جزءًا من طقوسنا المألوفة: طوابير طويلة من المهنئين أو المعزّين تتقاطع فيها الصفوف، وتزدحم فيها الأقدام، حتى يكاد الحضور يفقد صبره، وتنطفئ مشاعره.

هذا المشهد، الذي وُلد أصلًا كتعبير راقٍ عن المحبة والتكافل، تحوّل تدريجيًا إلى ممارسةٍ اجتماعية تُمارس بدافع المجاملة العامة لا من منطلق إحساس داخلي واعٍ، وبفعل العرف السائد أكثر من استحضار المعنى الحقيقي للمناسبة، لتعلو فيه المراعاة الشكلية الهادئة على صدق العاطفة، ويتقدّم فيه الواجب الاجتماعي على الإحساس بالآخر المُسن أو المُتعب أو المنشغل الذي حضر بدافع الوفاء والمشاركة.

ميزة مجتمعية تستحق التقدير

وبرغم كل ما سبق، يظلّ لمجتمعنا ميزةٌ نادرة تستحق الإشادة والثناء: وهي روح المشاركة الوجدانية الواسعة في الأفراح والأتراح، حيث يلتقي الأقارب والأرحام والأصدقاء والضيوف في أجواء من التلاحم والترابط.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل نحنُ بالفعل أمام أزمة إدارية؟ أم سلوك اجتماعي يحتاج إلى المراجعة؟

ما هي الطقوس

الطقوس هي: مجموعة من الأفعال أو الأقوال أو الإشارات المتكررة والمنظمة التي تُمارس في سياق ديني أو اجتماعي أو ثقافي أو حتى شخصي، وتحمل دلالة رمزية أو معنوية.

أما من الناحية اللغوية، فالطقوس جمع ”طَقس“، وتُشير إلى الطريقة الثابتة أو النمط المحدد لفعل شيء ما، كطقوس الزواج أو العزاء أو التهنئة، وتُمارس غالبًا بشكل تلقائي دون الحاجة إلى تفكير أو وعي مستمر، على عكس ”العادات“ التي تُكتسب بالتكرار والممارسة، مثل اعتياد المجتمع على الاصطفاف الطويل في طوابير التهاني أو العزاء في المناسبات.

حين تفقد الطقوس معناها

في زوايا المجالس، وعلى ألسنة العائدين من المناسبات، وبين تنهدات كبار السن بعد طول الوقوف، غالبًا ما تُقال جُمل لا تُنشر في الصحف، ولا تلتقطها عدسات الإعلام، ولكنها تسكن في صدور الناس وتُقال بعفوية مثل ”زحمة خانقة“، ”صف طويل“، ”مجاملات“ … إلخ من تعليقات تختصر المشهد وتفضح الشعور.

هكذا يتحدث الشارع، لا بصوت مرتفع، ولا عبر منبر رسمي، بل بوجعٍ مكتوم، ونبرة متعبة تعبّر عن ضيق اجتماعي متزايد وتململٍ خفي، ومن هنا، يصبح تسليط الضوء على هذه الظاهرة ضرورة، لا بقصد جلد الذات أو انتقاد التقاليد، بل بهدف إعادة تقييم السلوكيات الجماعية للتأكد من أنها ما زالت تخدم الغرض الذي وُجدت من أجله.

لِماذا لا نُراجع ما اعتدناه؟

في كل مجتمع حيّ، تتوارث الأجيال طقوسًا اجتماعية تعبّر عن التضامن، وتُجسّد روح الانتماء، وتمنح اللحظات الكبرى، أفراحًا كانت أو أحزانًا، بُعدًا إنسانيًا لا يُقدّر بثمن.

غير أن بعض هذه الطقوس، مع مرور الزمن، قد تفقد روحها الأصلية، فتتحوّل من تعبير صادق نابض بالمشاعر إلى ممارسةٍ شكلية تُؤدّى بدافع العرف لا بدافع الشعور، ومن سلوك نابع من القلب إلى عادة تُؤدّى بلا وعي ولا تأنٍّ، ولعل من أبرز تجليات هذا التحوّل: الازدحام غير المبرر، الذي يخلق فوضى وإرباكًا نفسيًا وبدنيًا، خصوصًا لكبار السن والمرضى و…

فتور حرارة المشاعر، حيث تتحوّل التعزية من لحظة مواساة صادقة إلى صيغة تقليدية تُقال على عجل، وتصبح التهنئة أشبه بعبارة مكررة لا تُلامس القلب.

التركيز على المظهر والشكل لا على الجوهر، كالتقاط الصور مع العريس أو المبالغة في الأهازيج، مما يُفرغ المناسبة من بعدها الإنساني العميق.

حين يُصبح العرف أقوى من الشعور

إن هذه الطوابير التي تزداد طولًا في كل مناسبة، لا تنشأ من فراغ، بل تقف خلفها جملة من الأسباب، ولعل أبرزها في تقديري ما يلي:

1- سطوة العرف الاجتماعي

في كثير من المجتمعات، وخصوصًا المجتمعات ذات الطابع المحافظ التي تقوم على الترابط العائلي والعرف الاجتماعي، باتت المشاركة في المناسبات الاجتماعية، سواء في الفرح أو الحزن، تخضع لحالة عرفية غير مكتوبة، لدرجة أن الفرد قد يشعر بأنه مُجبر لا مُخيّر، وأن غيابه قد يُفسّر على أنه تجاهل أو تقصير أو حتى قطيعة. ولذلك نرى البعض يُشارك ويتحمل الوقوف في الطوابير الطويلة، ليس برغبة صادقة أو شعور داخلي عميق كما هو في الظاهر، بل في أحيان كثيرة، بدافع الخوف من اللوم أو الهروب من الانتقادات، أو حتى من القيل والقال، أو ليُحافظ على صورته الاجتماعية أمام الآخرين. ففي حفلات الزفاف على سبيل المثال، نجد البعض يدخل القاعة ليسلّم على العريس ويلتقط صورة للذكرى، ثم يُغادر، أو في العزاء قد ينتظر في الصف طويلًا ليصافح أهل الفقيد، دون أن يكون بينه وبين المتوفى أو ذويه علاقة مباشرة، وإنما فقط لأداء الواجب.

وفي استبيان أُجري في السعودية عام 2022 م عن ”دوافع الحضور في المناسبات الاجتماعية“، أشار أكثر من 64% من المشاركين إلى أنهم يحضرون ”خشية أن يُفسّر غيابهم بأنه تقصير أو تجاهل“.

2- ضعف إدارة المناسبات وغياب التنظيم

رغم أن كثيرًا من المناسبات تُقام في صالات كبرى أو مجالس واسعة، إلا أن الطوابير الطويلة باتت مشهدًا مألوفًا، والسبب غالبًا ما يعود إلى سوء التخطيط والتنظيم، وغياب الآلية الواضحة في استقبال وتوجيه الضيوف، مما يجعل الحضور يشعرون بالملل، أو يؤدي إلى تكدّس غير مبرر. ففي استبيان محلي أجرته ”هيئة الترفيه السعودية“ عام 2023 م حول تقييم الجمهور لحضور المناسبات، أشار 57% من المشاركين إلى أن ”سوء التنظيم“ هو السبب الأول وراء استيائهم من الفعاليات الاجتماعية، وأن دراسة نُشرت في مجلة ”الإدارة الاجتماعية الخليجية“ بيّنت أن أكثر من 60% من المناسبات الأسرية لا يُخصّص لها فريق تنسيق وتنظيم، وأن الاعتماد يكون على العشوائية أو على أفراد غير مؤهلين.

3- الرغبة في الظهور والمجاملة الاعتبارية

أحيانًا لا يكون الحضور عند البعض نابعًا من تفاعل وجداني أو شعور حقيقي، بل من رغبة دفينة في الظهور أمام الناس أو تحقيق مكاسب اجتماعية واعتبارية، أو لإثبات الوجود في المشهد الاجتماعي، وهي رغبة تُغذّي الازدحام وتكدّس الصفوف. ففي استطلاع رأي آخر أجرته صحيفة ”المدينة“ حول دوافع الحضور في المناسبات، أظهر أن قرابة 36% من المشاركين يحضرون للحفاظ على حضورهم الاجتماعي العام، لا بدافع العلاقة الشخصية أو الشعور الوجداني.

الطوابير: عجز إداري أم خضوع اجتماعي

لا يختلف اثنان على أن حضور المناسبات الاجتماعية جزء أصيل من نسيجنا الثقافي وتجسيدٌ حيّ لقيم التراحم والتواصل المجتمعي، سواء كانت أفراحًا تُعبّر عن الفرح الجماعي أو عزاءات تُظهر التكاتف والمواساة، لكن ما لا يمكن تجاهله هو مشهد الطوابير الطويلة التي تحوّلت في كثير من الأحيان إلى أزمة صامتة يعيشها الجميع ويتأففون منها في داخلهم، دون أن يجرؤ أحد على فتح هذا الملف أو مراجعته بصدق.

ومن وجهة نظري ككاتب في الشأن الإداري، أرى أن هذه الظاهرة نتاج تداخل بين عجز إداري واضح وخضوع اجتماعي متراكم؛ فالتنظيم الغائب يفتح الباب على مصراعيه للفوضى، والضغط المجتمعي يدفع بالناس للحضور والمجاملة، حتى وإن كانت على حساب راحتهم أو قناعتهم.

وهكذا… تتكرر الطوابير لا لأننا نحتاجها، بل لأننا اعتدناها؛ فالحاجة تُعبّر عن التواصل الحقيقي الذي ينبع من القلب، بينما العادة ”سلوك متكرر“ يُمارس تلقائيًا دون وعي أو تساؤل، كما أن الحاجة تولّد أثرًا نفسيًا إيجابيًا للطرفين، المُضيف والضيوف، بينما العادة قد تُشعر الشخص بالملل أو الإرهاق، وغالبًا لا تترك أثرًا معنويًا حقيقيًا، كالذهاب لمجلس عزاء لأن الشخص قريب أو يحتاج دعمك ومساندتك، أو الذهاب لصالة أفراح لأن الناس كلها ذهبت، حتى وإن كنت لا تعرف أهل العريس.

الخاتمة: نحو وعي اجتماعي وتنظيمي جديد

إنني أعتقد جازمًا أن الطوابير الطويلة في مناسباتنا الاجتماعية لم تعد مجرد مشهد عرضي أو حالة عابرة، بل باتت مؤشِّرًا واضحًا على وجود خلل عميقٍ في ثقافتنا التنظيمية والاجتماعية، يتجلّى بوضوح في سوء إدارة المناسبات من جهة، وفي المبالغة في التمسك بالعرف والعادة على حساب الراحة والجوهر الإنساني للمشاركة من جهة أخرى.

وعليه، فليس الهدف من الطرح هو إلغاء ”الطقوس“، بل في إعادة الروح إليها، واسترداد معناها الأصيل، وأن نراجع أنفسنا بصدق ونتساءل: هل ما نمارسه اليوم يُعزز القيم النبيلة أم يُثقلها بالشكل والمبالغة؟ وهل الطقوس التي ورثناها تُقرّبنا فعلاً من بعضنا البعض، أم تُزاحمنا في طوابير صامتة؟

وخلاصة رسالتي من هذا الطرح:

هي: دعوة صادقة لإعادة النظر في الطريقة التي نُمارس بها تقاليدنا، حتى لا تتحول إلى عبء شكلي يُفرغ اللحظات الإنسانية من محتواها الحقيقي، ودعوة لمراجعة أساليب التنظيم، وإعادة تعريف مفهوم ”المجاملة“ لتكون نابعة من القلب، لا أداءً نمطيًا فارغًا من المحتوى.

وأخيرًا: دعوة لنشر ثقافة الوعي التي تُقدّم الجوهر على المظهر، والمعنى على العادة، فلا نُساير ما اعتدناه لمجرد الخوف من الخروج عن المألوف، بل نُمارس ما نؤمن به حقًا، وما يُعبّر عن مشاعرنا بصدق وإنسانية.