لن تكون رسولًا: قراءة في نبوءة الشعر عند علي مكي الشيخ
حين تهمس القصيدة من خلف الوحي، لا بمداد الدين، بل بمداد الدهشة، وتطلّ من شرفة المجاز لا على العالم، بل على الذات، فإننا نكون أمام نصٍّ استثنائي لا يُقرأ، بل يُستَقبل ك ”نُبوءةٍ لغوية“، يتّكئ على نار الرؤيا لا برد المعاني، وعلى رعشة اللايقين لا يقين البلاغة. هكذا تُولد قصيدة ”لن تكون رسولًا“ للشاعر علي مكي الشيخ: لا لتُناقَش كما تُناقَش النصوص، بل لتُحفر كما تُحفر الأساطير، وتُشم كما يُشم البخور الحائر بين محراب الشعر وجمر الذات.
«لن تكون رسولًا» — عنوان لا يفتتح القصيدة، بل يصدّها. ليس مدخلًا بل جدارًا. كأنّ الشاعر يبدأ بنفي نفسه، أو كأنّ صوتًا أعلى منه — التاريخ، المجتمع، السلطة، الشعراء القدامى — يقطع الطريق عليه قبل أن ينطق. لكنه يردّ فورًا:
فأجبتُ: أنزلني الهوى تنزيلا
وهنا تحدث الضربة الشعرية الأولى: إذا كانت النبوة وحيًا من السماء، فإنّ الشعر، في أكثر تجلياته صدقًا، هو وحي الهوى، و”الهوى“ هنا ليس شهوةً أرضية بل قوى خفية، محركة، تجرّ الشاعر إلى مقام يشبه، مجازيًا، مقام النبي.
هذا النفي ينقلب - لا بسلطة التحدي، بل بسلطة المجاز - إلى بوحٍ أعلى: ”أنا لست نبيًا، لكن الشعر فيّ يعمل كما يعمل الوحي“. لا يطالب الشاعر برسالة سماوية، بل برسالة لغوية، لا تخرج من الغيب، بل من الغياب.
لأمارسَ اللاشيءَ، قبل حدوثهِ / وأصيرَ قبلَ سؤالهِ، مسؤولا
الشاعر هنا لا يعيش العالم، بل يسبقه. لا يكتب عن الواقع، بل عن اللاشيء الذي يسبق تكوّنه. وهذه جرأة وجودية — شعرية — يُعلن فيها مسؤوليته عن لحظة لم تحدث بعد. كأنّه يعترف بمسؤوليته عن المجهول، عن الذي لم يُسأل عنه بعد.
واللاشيء هنا ليس عدميًا، بل كثيفًا؛ إنه مجازٌ محمّلٌ بإمكانية التشكّل، سابقٌ على اللغة، أشبه بالبرق الذي يسبق الرعد في وجدان القصيدة. الشاعر يخلق الزمن الشعري قبل أن يبدأ زمن الحكاية.
وفمي.. لغيرِ المعجزاتِ محرّمٌ / والشعرُ لم يسكنْ فمًا مأهولا
الفم في هذا السياق ليس عضو النطق، بل مقامٌ للقول المقدّس. الشاعر يعلن طُهرانية لغته؛ لا مكان فيها إلا لما يُدهش. والفم المأهول هو الفم المزدحم بالخطاب العام، باللغو، بالقول المُعاد. الشعر هنا يطلب الخلوة. لا يسكن إلا في فم ”صوفيّ لغويّ“، مهيّأ للمعجز، مفطر على المجاز، صائم عن الابتذال.
يصطادني وحيٌ بحجمِ طفولتي / فأرى المجازَ يصوغني، جِبريلا
الطفولة هنا ليست براءة، بل مقاس. إنها معيار الوحي: لا يُوحى إلّا لمن كان حرًا، غير ملوّث. والمجاز هنا ليس أداة بل خالق، لا يُستخدم بل يستخدم. والفاعل هو ”جبريل“، لكنه ليس جبريل الوحي، بل جبريل المجاز، المبدع، الشكل، الخلق. هذا الانقلاب الجريء على صورة المَلَك يجعل الشعر هو الفاعل الحقيقي، والطفولة هي القابل.
وجهي.. ببعضِ الأنبياءِ ملطّخٌ / وعلى شفاهي لم أكنْ إنجيلا
لا يسعى الشاعر إلى القداسة، بل يقترب منها كشبه. وجهه ملطّخ لا مزيّن، وهذا اللفظ — ”ملطّخ“ — بقدر ما يُثير الريبة، فإنه يُلغي المسافة بين القداسة والإثم. فهو لا يدّعي النقاء، بل يعترف بالتماس، بالعدوى الروحية. وعلى شفاهه لم يسكن إنجيل، لأنه لا يُبشّر، بل ”يشتعل“.
ما بين أضلاعي، بقايا متحفٍ / لملائكٍ، نحتوا الهوى تأويلا
هنا تتجسد العبقرية الشعرية في أوضح صورها. القلب ليس قلبًا، بل متحفٌ للزائل المقدّس، للذكريات التي مرّت كملائكة ثم انسحبت. هؤلاء الملائكة لا ينقلون وحيًا، بل ”ينحتون الهوى تأويلا“، كأن الحب صار نصًا مقدسًا يحتاج شُرّاحًا، والنص هو الشاعر نفسه، والمتحف هو جسده.
سقطت على ورقِ القرنفلِ، ضحكةٌ / فتوسّدت إعجازها.. تقبيلا
الجمال هنا لا يُقرأ بل يُشمّ. هذا بيت لا يوصف، بل يُعاش. هو لحظة امتلاء حسي وروحي في آن. هو اختصار الجمال في ”ورقٍ وضحكةٍ وتقبيل“. ليس للتشبيه، بل للتجربة. الشعر هنا يُمارس حسًّا لا يُصاغ، بل يُستسلم له.
فهرستُ.. آخرَ برزخٍ في لعنتي.. / فوجدتني، بشرًا يزيدُ قليلا
البيت الأخير… هو الصدمة. فبعد كل هذا الاقتراب من الملائكة، من جبريل، من المجاز، من التنزيل، من القرنفل، من النفي، من الوحي… ينتهي الشاعر إلى نفسه. لا نبيًا، لا رسولًا، لا ملاكًا، بل ”بشرًا يزيد قليلا“.
وزيادة هذا ”القليل“ هي كل الشعر. إنها ليست وحيًا، لكنها ظلّه. ليست قداسة، لكنها لذعة الاقتراب منها. ليست رسالة، لكنها بلاغ داخليّ لا يُرسل لأحد، بل ينفجر في ذات الشاعر.
إن قصيدة ”لن تكون رسولًا“ ليست فقط نصًا شعريًا فريدًا، بل هي تجربة حدّية على مستوى اللغة والروح. إنها تفكيك ناعم لمفهوم الرسالة، وبناء عاصف لمعنى الإلهام. الشاعر لا يتسلّق مقام النبوة، بل ينقّب في أنقاضها عن مجازٍ نسيه الوحي.
هي قصيدة لا تقف على أعتاب النبوة، بل تلامسها بإصبع المجاز المرتجف، وتعود لتقول:
”أنا الشاعر… لا نبيٌّ، لكنّي أحترق كما يحترقون.“