آخر تحديث: 8 / 6 / 2025م - 7:39 م

احتلال

هناء العوامي

خالد يتأمل ناره المتراقصة وهي تنهش كبد السماء، يحتسي قدرًا يسيرًا من قهوته ويترنم:

”يا نار شبي من ضلوعي حطبكِ“...

مر زمن طويل منذ رأى أشياء غريبة في الصحراء وهو يشعر بمزيج غريب من الاطمئنان والتوق إلى أن يراها ثانية، الترقب ظل شعورًا يخالجه ولم يعد يستمتع بالهدوء والسكينة ورحابة المكان كما كان يفعل سابقًا، شيء ما ناقص.

”لا ترغب في شيء“، قال لنفسه، ”لا ترغب في شيء ولن يؤذيك شيء“، ”من صاحب تلك الفكرة؟ سيدهارتا غوتاما على ما أظن....؟“

حاول أن يستمتع بالشعور بالفراغ.

عاد ينظر إلى النار، ينصت إلى طقطقة الحطب وهي تترنم بلحنٍ يشرح له فلسفة الحياة.

يا نار شبي واحرقي هم دنياي...

يا نار يا هي حارقة يا هي وضية!

في الوقت عينه... وفي كوكب بعيد يقع على أطراف درب التبانة كان مجلس العلماء الأعلى منعقدًا في جلسة طارئة لحل مشكلة قلة مصادر الطاقة التي قرر زعيم أكبر دولة فيها أنه حان الوقت للتنقيب عنها في الفضاء الخارجي.

الموضوع: أزمة الطاقة، والحلّ الذي اقترحه زعيم أعظم دولة في ذلك الكوكب هو التنقيب عن مصادر جديدة في الفضاء الخارجي.

وتحديدًا في كوكب يسمِّي سكانه تلك الطاقة ”الماء“، والذي كان يدرك أنه كوكب يشتمل على أنواع بدائية من الحياة، ما عزز ظنه بأن وجود هذه الطاقة مهم لنشأة الحياة على أي كوكب. ”’شش’ يا حبيبتي، أنا معك في أننا يجب أن نحافظ على أي نوع من الحياة وإن كانت بدائية، لكنني لا أظن أننا قد نجد طاقة ’الروار’ بكميات كافية في كوكب خال من الحياة، كما أن الوصول لذلك الكوكب والتعامل مع بيئته أصبح ميسرًا لنا شكرًا لجهودك، سوف يذكرك التاريخ ويمجدك طويلًا لهذا....“ قالها بلطف بدا لها مبتذلًا، إنها كبيرة مجلس علمائه ومكتشفة ذلك الكوكب الأزرق الذي ينوي استنزافه، لكن ها هو يكلمها أمام الجميع وكأنها طفلة صغيرة..

عدّل أحد العلماء المخضرمين ياقة معطفه السلموحي قبل أن يحدثها بتهذيب: ”سيدتي ’شش’، مع كامل احترامي وتقديري لرغبتك في ثني المجلس والدولة عن استغلال الموارد في الكوكب الذي اكتشفته والذي سيحمل بالتأكيد اسمك بعد الإعلان عنه، لكن السيد الموقر والدك له وجهة نظر منطقية للغاية، في الواقع لقد نقلنا بعض المشاهد من العيون السلموحية التي أرسلناها والتي أقنعت معظم المسؤولين بأن ذلك الكوكب فعلًا يدمر نفسه، سوف أعيد عرض بعضها الآن بحضورك الكريم يا سيدتي“.

المشهد الأول كان لدبور طفيلي يحقن عنكبوتًا بسم يسبب له الشلل ويضع يرقاته عليه لكي تتغذى عليه وهو حي بعد أن تفقس...

المشهد الثاني كان لحلبة ملاكمة حولها جمهور يصرخ حماسًا وقد خرجت من الجالس بجانبها عيونه الثلاث وامتدت نحو المشهد بفضول وهو يقول: ”يبدو لي أن هذه الكائنات تنتمي لنفس الفصيلة، كما أنه من الواضح أن هدف ما يفعلونه ليس الحصول على الغذاء“...

”لا“.. قالت ’شش’ بحزم.

هنا كلمها بنوع من الحزم وبشيء من الازدراء نفس الزطريخ - أو بلغتنا نفس الرجل - الذي كان يغريها من قبل بأنّ الكوكب المكتشف والذي سيجري استنزافه من أجل الطاقة وربما إبادته نتيجة لذلك سيحمل اسمها وقال لها:

”’شش’ يا صغيرتي....“

نظرت إليه مصدومة، لأول مرة تشعر بأن أباها كانت تحمل عبارته هذه قدرًا من الحنان حين يخاطبها بها، شعرت بأنها غريبة وسطهم... وبأنه لا أحد هنا يحبها.

”دعيني أريك المشهد الذي سيقنعك بصحة قرار السيد والدك، أيها السادة هذا مشهد لم تروه من قبل، لقد وردنا قبل نصف دورة كوكب وحسب“...

المشهد الثالث كان من مدينة يسميها الفضائيون ”غزة“، وقد حمل أجسام عدد من الزطاريخ الحاضرين على التموج والتوهج بلون طرنيقي حاد بسبب ما شعروا به من صدمة، بل إن أحدهم صرخ قائلًا: ”عابتيثمح نهاب حجلقسث متف مبتنقط“...

وأطرقت ’شش’ ونظرت إلى الأرض، ولهذا التعبير عندهم نفس ما يعنيه عندنا..

ثم ساد صمت..

وتلاه صمت..

ثم قالت شش: ”نعم يا أبي، هذا الكوكب يدمر نفسه“.

تمت.