مغامرة في التأويل
العيد.. هو من يرتقي ببهجتك من الشعور الشخصي إلى العموم. وهو كل ما حولك من نفوس تعاهدت على الفرح في مواقيت تتعالى على طبيعة الأيام بإحداث تغيير عميق في إيقاعها. إنه عرس الروح وجلوتها بعد رياضات روحية عاشتها، كالصوم، أو تمثلتها كالحج؛ عندما لم تشارك في شعائره فعلياً سوى برمزية تقديم القربان أو الأضحية.
وفي الغربة يكون قدوم العيد موجعاً إلا باصطناعه، كحفل المعايدة الذي أقامته الجالية العربية بالشراكة مع عدد كبير من المبتعثين السعوديين في مدينة ”أيوا“ الأمريكية. كان وقتها عيد الأضحى، والذي استعدت له الجالية العربية بذبح أضاحيها في مزرعة ”أبي شاكر“، المزارع الأمريكي السبعيني المتدين، والمنتمي إلى طائفة ”الأَميِش“ الطهرانية، أو المتطهرة، وعميدها أيضا في تلك الناحية.
أبو شاكر، وهذه كنيته التي أطلقها عليه ”الشباب“ - ويبتسم هو عند سماعها - يعيش في قرية جميع أفرادها لا يزاولون مهنة سوى الفلاحة وتربية الماشية. يتبعون منهجاً صارماً ومحدداً في الحياة يخلو من مظاهرها الحديثة؛ كاستعمال المحركات والكهرباء، أو أي شيء يُدار ويعمل بغير الجهد البشري أو الحيواني. ممارسة حياتية منضبطة وصارمة، وعقيدة دينية مسيحية بروتستانتية تمتد إلى ثلاثة قرون من الزمان، ويعود ظهورها إلى حركة الإصلاح الديني في القرن السابع عشر الميلادي. فمؤسس هذه الطائفة هو رجل الدين السويسري ”جيكوب أمان“ والذي عاش في الجزء الألماني من سويسرا، وأُطلق على الطائفة مسمى مشتق من لقب عائلته باللغة الألمانية ”أميش“.
رجال هذه الطائفة يرتدون دائماً ملابس بسيطة وزاهدة، وتتكون عادة من قمصان بيض وسراويل سوداء. يعتمرون قبعات واسعة الأطراف، ويثبتون سراويلهم بحمالات، ولا يسمح بالأزرار لأنها كانت تعد في أوروبا - قديماً - علامة على الفخر والثراء.
في حين نسائهم يرتدين فساتين طويلة فوقها سترة بيضاء، ويضعن غطاء رأس يخفي شعرهن الذي لا يقصصنه بأي عذر؛ إنما يجمعنه في ضفائر أو لفه تحت قبعة بيضاء إذا كن متزوجات، وسوداء إذا كانت الفتاة غير متزوجة، ولا يسمح لهن بارتداء أي من المجوهرات. يتجنبن ”زينة الذات“ ليظهرن بشكل متجانس حتى يبعدن عن أنفسهن الغرور والتنافس. ومن الطريف، أنك تجد لعب البنات «العرائس» التي يلعبن بهن ممحي عنها صورة الوجه وبسيطة هي الأخرى في تكوينها وملابسها. وبساطة الحياة والمظهر تنسحب أيضاً على مفهوم تعليم الأطفال، حيث مسموح لهم تعلم مواد القراءة والكتابة، وكذلك الحساب الذي سيفيدهم مستقبلاً في أعمال الزراعة والحرف اليدوية، ويدرسون أيضاً بعض الجغرافيا. وعندما يتعدون عمر الرابعة عشر من عمرهم يبدؤون تعلم الأعمال - المحدودة - التي يزاولها الكبار.
قوم في غاية الطيبة واللطافة والمسالمة مع الآخر، لكنهم صارمون مع أنفسهم. قائمة المحرمات لديهم طويلة، فلا تجد في حوزتهم سوى أدوات بدائية بسيطة، ومركوبهم لا يتعدى العربة التي يجرها الحصان. يعيشون قريباً من المدن الأمريكية الكبرى التي تتباهى بأنها النموذج العصري الأول في العالم باستخدامهم التقنية والمنتجات الحضارية، بينما هم يشيحون بأنظارهم عن كل ذلك، وكأن الفاصل بين قراهم والمدن العصرية قرون زمنية وليس مجرد عشرات من الأميال. فعندما تجعل وراءك الأبراج الزجاجية لناطحات السحاب التي تلمع من بعيد ميمماً شطرهم، تقع عيناك عند اقترابك من قراهم على أسوار حضائر الحيوان والبيوت البسيطة التي تخلو من البهرجة، إلا من بعض الملابس ”المنشورة“ على حبال الغسيل والتي تخالها بمثابة الأعلام المرفرفة والمؤكدة لك وصولك إلى المكان المطلوب.
استقبلنا أبو شاكر بالترحاب، وبالأحضان لبعضنا، واستفسر عن عدد الخراف والبيض ومقدار أرطال الجبن الذي نريد. أخبرناه بحاجتنا، ثم استدعى احفاده لطلب المساعدة.
راقبت هذا الرجل الأمريكي وهو يتنقل بين الحضائر في نشاط وفتوة يغبطه عليها ابن العشرين. فبالرغم من تدينه ورقته، إلا أنه الوحيد في هذه الناحية الذي يوافق على أن تذبح الأضحية بالسكين؛ وفقا لطريقتنا الإسلامية. لكنه يضع شرطاً وحيداً، وهو أنه لا بد قبل الشروع في التذكية؛ أن يتم إطلاق رصاصة صغيرة من بندقية الصيد على رأس الذبيحة حتى تفقدها الوعي ولا تموت. ثم بعدها نباشر ”طقوسنا“ - كما يسميها - بطريقة لا تُشعرها بالألم.
إذن، فنحن تعاملنا جميعاً مع هذه الظروف ببرجماتية مواطنه ”النيويوركر“ وليام جيمس، عندما أولنا نصنا الديني وقسنا عليه كحالة صيد؛ بإطلاقنا النار من البندقية قبل الذبح، وعلى اعتبار أن الخروف إثرها لم يمت بعد. ومن جانبه، فقد أَوّلَ أبو شاكر القانون وعمل بروحه في الرأفة بالحيوان تبعاً لقانون الولاية ولم يخرج عنه. وبتقاربنا وتوافقنا المشترك هذا، غادرنا المزرعة، ونحن نقرأ الفاتحة على روح نظرية ”صدام الحضارات“ للنيويوركر الآخر صامويل هنتنجتون؛ وكأن تلويحة الوداع من أبي شاكر، تمسح في الهواء آخر سطورها.