آخر تحديث: 8 / 6 / 2025م - 12:41 ص

بعض من ملامح النظام الدولي المرتقب

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

تاريخ الحضارات هو في حقيقته، رواية عن صعود وسقوط الإمبراطوريات. والأمر كان مشروعاً، حتى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أطلقه الرئيس الأمريكي، ويدرو ويلسون، الذي اعتبر الاستعمار عملاً مقيتاً وغير أخلاقي. وبموجب هذا البيان ألغي حق الفتح، الذي ساد لآلاف السنين، حيث تتوسع الامبراطوريات وتنكمش بناء على شيوعه. وقد تم استبدال التعبير الفاقع للاحتلال، بمفردات جديدة أضيفت للقاموس السياسي، هي الحماية والانتداب والوصاية... المفردات التي أعطت مشروعية لاتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور.

كثير من المفكرين والمهتمين بالسياسة الدولية، يرجعون فكرة السيادة، إلى اتفاقية ويستفاليا عام 1648، التي أنهت حرب الثلاثين عاماً ببن إسبانيا وهولندا، وهي بالأصل نتاج لصراع ديني معقد بين الكاثوليك والبروتستانت داخل الامبراطورية الرومانية المقدسة. وكانت من أكثر الحروب قسوة ودموية، قبل حروب القرن العشرين.

الأحداث التاريخية، اللاحقة، أكدت بما لا يقبل الجدل، أن المواثيق والاتفاقيات، لا تشكل وحدها ضمانة لتحقيق السلام، وأن العامل الحاسم، هو توازن القوة بين المتصارعين. كما أكدت، أنه في عالم السياسة لا توجد صداقات أو عداوات دائمة.

في العقد الثاني، من القرن العشرين، اندلعت الحرب العالمية الأولى، التي أودت بالسلطنة العثمانية، وأسهمت في انهيار النظام القيصري بروسيا، وقيام الثورة البلشفية. وكانت فرصة سانحة لقيام نظام دولي جديد، ومؤسسات ناظمة للعلاقات بين الدول. وهكذا تأسست عصبة الأمم، لتحقيق هذا الهدف. لكن تمترس الولايات المتحدة، خلف المحيط، وتمسكها حتى تلك اللحظة بعزلتها، وانشغال الاتحاد السوفييتي، بمرحلة التأسيس، جعل من عصبة الأمم، مجرد مرحلة قصيرة في التاريخ البشري، لها ما بعدها، بحيث تم توصيف الحرب العالمية الاولى، بأنها الحرب التي لم تكتمل. لكن نتائجها حققت الكثير. فتضعضع الامبراطوريات الغربية التقليدية، أسهم في سطوع نجم حركات التحرر الوطني، وباتت أهم معلم من معالم القرن العشرين. ولعل الأثر الأكثر إيجابية لنتائجها هو السعي الدؤوب لشعوب العالم في القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، لتحقيق الاستقلال. وقد تلاقت تلك الصبوات، مع رغبة حادة، من قبل الولايات المتحدة لإزاحة حلفائها، وأخذ مكانهم.

حين أممت مصر، قناة السويس، في 26 تموز/ يوليو 1956، وردت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، بعدوان ثلاثي على مصر، أصدر الاتحاد السوفييتي انذاره الشهير، بقصف لندن وباريس بالسلاح النووي، وبإزالة اسرائيل، لجأ الحلفاء للرئيس الأمريكي، آيزنهاور طالبين الدعم، لكنه رفض تقديم أي دعم لهم، ونصحهم بقبول الانذار السوفييتي ووقف العدوان، وتم ذلك بالفعل.

تصرفت الإدارة الأمريكية، بعد الحرب العالمية الثانية، كإمبراطورية يحسب حسابها، فنفذت مشروع مارشال للإعمار، وغطت أوروبا الغربية بمظلتها النووية. واستمرت بتنفيذ ذلك لأكثر من ثمانين عاماً، رغم الكلف الكبيرة. لكنها الأن، وبسبب أزماتها الاقتصادية المتتالية، تتخلى طواعية عن هذا الدور، ويطالب الجابي الأمريكي، دونالد ترامب، بمبالغ باهظة لقاء الخدمات التي تقدمها بلاده، للأوروبيين. في حين يدرك ترامب، وأسلافه من الرؤساء الأمريكيين، أن ما كانوا يقدمونه للأوروبيين، لم يكن من باب الاحسان، بل كان تعبيراً عن حضور قوي للامبراطورية الأمريكية.

إنها قوانين التاريخ، التي تقول لو دامت لغيرك ما وصلت إليك، وهي التعبير الحقيقي، لنظرية الدورة التاريخية. والمؤكد أن الكون لا يقبل الفراغ، فما تتخلى عنه أمريكا، طواعية أو كرهاً، يتلقفه التنين الصيني، ويعاونه على ذلك الدب القطبي. صحيح أن أمريكا، لا تزال تملك القوة العسكرية الضاربة، وتحظى بقوة اقتصادية لا يستهان بها، لكن الرسم البياني، للاقتصادات الدولية الكبرى، يشير إلى خط صيني صاعد، بقوة إلى الأعلى، وخط أمريكي يتجه إلى الأسفل. ومن لديه شك في ذلك، فليس عليه سوى متابعة أعداد العاطلين، ومعدومي السكن بالولايات المتحدة، ومقارنة ذلك بالنهوض الصيني، مع الأخذ بالاعتبار النسب الكبيرة، في عدد السكان بالبلدين.

ملامح النظام الدولي الجديد، ليست رجماً بالغيب، بل بدأت مؤشراتها بالفعل منذ عدة سنوات، وقد حان موعد القطاف، ولن يتحقق ذلك، إلا بإعادة ترتيب المؤسسة الناظمة للعلاقات الدولية، على ضوء موازين القوة الجديدة. لا يمكن على سبيل المثال، أن تكون أمماً كالهند، بما تملك من ثقل حضاري، وقوة اقتصادية وسلاح ردع نووي، أن تكون خارج معادلة صنع القرارات الأممية. كما أنه من غير المنطقي، أن تكون القارة السوداء، وهي القارة الثانية حجماً وقوة بشرية، خارج إطار صنع القرارات الكبرى التي تحدد مصير البشرية.

ومثل هذا القول، ينسحب على أمريكا اللاتينية، وما تمثله من إرث حضاري وقوة بشرية. دولة مثل البرازيل، بقوتها الصناعية والاقتصادية وثقلها البشري، لن تقبل باستمرار إرث الحرب العالمية الثانية، لقرابة ثمانين عاماً، من غير تغيير، ومن غير اعتبار للمتغيرات في موازين القوى.

أما نحن في الوطن العربي، والحق يقال، فسنبقى لسنوات قادمة، رغم ما نملكه من ثروات وإرث حضاري، خارج دائرة صنع القرار، ما دام السائد، هو المزيد من الأزمات والحروب الأهلية، التي يشتعل أوارها، في عدد كبير من الأقطار العربية، والتي طالت للأسف، عدداً من مراكز الاشعاع والنهضة العربية، وما لم نعد إلى المواثيق والمعاهدات التي يكتظ بها أرشيف جامعة الدول العربية، فسنظل على هامش التاريخ.