آخر تحديث: 22 / 5 / 2025م - 12:34 ص

حُرية التَّعبير والتأوِيل

محمد الحميدي

«قراءة في ديوان ”تشربني المواقد“ للشاعر عماد العلويات»

الخلاصُ بالرَّحيل، والسَّفر من الواقِعي إلى الخيَالي؛ فِكرة قاربَها دِيوان «تشربُني المواقِد»؛ إذ يَرى الوجودَ مأسَاة رُوح وجسَد، فالرُّوح أنهكَها البحثُ عن إجاباتِ أسئلةٍ شائكَة، ومصيريَّة، ظلَّ صَداها يتردَّد في داخلِها، أمَّا الجسدُ فمهترئٌ، ومتوجِّع، ومصابٌ بألمٍ لا يُحتمل؛ لهذا تخرجُ الصرخاتُ من الأعماقِ، على شكلِ قصائِد وآهَات: "مثخنٌ بالعبيرِ واجتياحِ الهواءِ يتقصَّى رؤاهُ من نداءِ الأقاصي ويرفعهُ سرابُ الكمائنِ

يتدحرجُ في أبديَّة بيضاءَ مشوبةٍ بجمرةِ الوعيد وخفَّة الخلاص".

إذا تقلَّصت الحريَّة؛ انكَفأت الأنا على نفسِها، وأُصيبت بعُسر التَّعبير، حينها تغدو رهينةً للخوفِ من سُوء فهمِ وتأويلِ كَلماتها وعِباراتها؛ لهذا تُصبح الحاجةُ إلى السَّفر أمراً ملحًّا، للخلاصِ من الأحزَان، والعُبور إلى الأحلَام؛ عبرَ رحيلٍ داخِلي، يخترقُ الهمَّ إلى المعنَى، والوجومَ إلى البسمَة، والعتمةَ إلى الأُنثى، فالمعنَى والبسمَة والأُنثى؛ رُفقاء سَفر، وأمتعةُ رحِيل: "غداً ظلي

يسافرُ في مداكِ الرحبِ

في رئةِ السطور"

رحيلٌ خَيالي، وصراعٌ داخِلي، ينهشُ أعماقَ الذَّات، فالحاجةُ إلى الخَلاص؛ باتت هدفاً وجوديًّا، إذ لا خلاصَ إلا بقصِيدة؛ تخرجُ من الوُجدان، وتنهمرُ مع الأحزَان، حيثُ القصيدةُ والحزنُ توأمَان: "أيها العابرُ من بوابةِ الحزنِ.. تمهَّل

فلدى الحزنِ ترانيمٌ من الوجدِ المُحلَّى

وعناقيدَ ضياءٍ

تشتهي أن تُسرجَ الروحَ

بألوانِ القُبل"

مَن يُمسك أحزانَ الذَّات، فيمنحُ القصِيدة معنَاها، والشَّاعر حقيقتَه وهُويَّته؟ أسئلةٌ وأزماتٌ شائكَة، تُعاني الأنا وطأَتها، حينما تفتقدُ القُدرة على التَّأويل؛ ليصبحَ ”الوهم“ سبيلَها الوحيدَ للبَقاء، والاستِمرار: "جئنا

طرقنا البابَ فارتعشت أصابعنا

وماجت في دمي مِزقُ الهواء

وسافرتْ رئتي لتسألَ عن شهيقِ أنوثتي

عن عِشقها الأبديِّ

عن كينونةٍ ضاعت وراء الوهمِ في الأشياء"

لا بدَّ من أُنثى؛ تخفِّف وطأَة الوجُود، وتمنحُ الذَّات الأمَل، فالكَلمات عالمٌ مجَازي، موازٍ لعالمِ الحقيقَة، ولكي يجتازَه الشَّاعر؛ عليهِ أنْ يُعيد قراءَته وتأويلَه، لتغدو الحقيقةُ؛ إعادةَ القراءة، وامتلاكَ حرية التأويل: "كانت تؤرجِحني على آفاقها

وتفيضُ بي أحلامها الورديهْ

كانت... وكنت على الندى أيقونةً

مصلوبةً بمطامحِ البشريهْ

تدنو وأدنو للغرام مُدلَّهاً

وأموجُ في بحر الرؤى الشعريهْ"

إعادةُ قراءةِ الحيَاة، والتأمُّل في مُفردات الوجُود، بغرضِ اكتشافِ الثَّغرات والعُيوب؛ تُعتبر أبرزَ ميزاتهِ، فإذا فقدَها؛ يكونُ قد فقدَ حريَّة التَّعبير عن نفسِه، وعن العالمِ الذي ينتمِي إليه، إذ الشَّاعر لا يعبِّر عن مشاعرهِ فحسب، بل يُشرك الآخرين، ويعبِّر عن مشاعرِهم وهُمومهم وأحزانِهم: "حريتي التعبيرُ عن ألمِ اللظى

عن جوهرِ الإنسانِ والطبقيهْ"

لا خلاصَ من الهُموم والأحزانِ إلا بالحبِّ والأُنثى؛ إذ ”الطريق طويل“، وثمَّة حاجةٌ ملحَّة إلى سنَد؛ يمنعُ انهيارَ الذَّات وفشلَها، لهذا حينَ تُلقي بنفسِها في أتُون الحيَاة، تُفتح ”نافذة“ للأمَل، و”رئة“ للبوحِ بالمشاعِر، و”ناي“ اً يخفِّف القُيود عن الرُّوح: "عودي ليكتملَ امتزاجي بالعطور وبالحرير وبالندى

عودي فثمَّة شاعرٌ قلقٌ

تأرجحَ بالعذابِ وبالسراب"

خلاصُ الذَّات، وخلاصُ البشريَّة لا يتمُّ إلا بالحُب، حيث تغدو الأُنثى في القصائِد؛ هيَ كلُّ النِّساء، وجميعُ الحبيبَات، فيخلعُ الشَّاعر جُبَّة الذَّات، ويرتَدي مِعطف البشريَّة؛ من أجلِ أنْ يكتشفَ الحقيقةَ التي تُميِّزه عن بقيَّة الكَائنات: "وأقتطف النساءَ جميعهنَّ على يديَّ

وأصطفي ليلي

وأملأُ هامشَ الأشياءِ من ضجرِ الغياب"

سفرٌ أزليٌّ، تُمارسه الذَّات، من أجلِ بُلوغ خَلاصها، وكَمالها، حيث البوحُ، وكتابةُ القصِيدة، والغوصُ في عالمِ المجَاز؛ طريقُها لممارسةِ الرَّحيل، نحوَ معنًى جديدٍ، وعالمٍ بكرٍ: "وتُشكِّل المعنى على قلبي تسابيحاً

وأغصاناً تدلَّت فوقَ أحلامِ الخلود

وتُعيد تأويلي ابتكاراً للمسافات التي

خجِلت من اللقيا وترحلُ من جديد"

العالمُ البِكر، والمعنَى الجدِيد، ليسَ أكثَر من أُنثى، وجدَ في أحضَانها الخلاصَ من الألمِ والحُزن؛ لهذا تنوَّعت، وتعدَّدت، وغدَت عالماً مستقلاً، عبَّر عنه الشَّاعر بحريَّة، احتاجَت حريَّة مماثلةً في استقبالِه وتأويلِه؛ إذ المجازُ يقابلُه المجَاز، والحقيقةُ تقابلُها الحقيقَة.

إشكاليَّة التَّعبير، لا تقتصرُ على ذاتٍ دُون ذَات، فالجميعُ مصابٌ بعُسر الكتابَة، وعُسر الفَهم، ولِعلاج المرضِ؛ لا بدَّ من إتاحةِ حُرية التَّعبير والتَّأويل؛ من أجلِ اكتمالِ المعنَى، وتجلِّي الدلالَة، وعدمِ الانجرافِ وراءَ الوهمِ والزَّيف.

عالمٌ خياليٌّ صنعتهُ الكلماتُ، وغذَّته المشاعرُ، حيث الأُنثى خلاصُ بشريٍّ محطَّم؛ أدمنَ التِّرحَال، والهرَب نحوَ أحلامٍ تالفةٍ، لا يُمكن استعادتُها؛ إلا بمعاناةٍ، وألمٍ، وصراعٍ مريرٍ، مشوبٍ بأسئلةٍ شائكةٍ، أدمَت الرُّوح، وأصابتها بالهذيان.